|
ملحق ثقافي كأن آهة ما استقرت فيهما ، و عيناها محارتان انشقتا عن كرتي زجاج بلون الغابات تنظران بتواصل نظرتهما المودعة الأخيرة بدا وجهها متألما ، متشنجا و مزرقا قليلا... شعرت بحزن عميق وأنا أقف بين الجموع الذاهلة حول جثتها الهامدة ، بينما راحت تجرجرني ذكراها • • • • " بعد منتصف الليل ، و بينما أنداح متدحرجا في الممر الطويل لمسكننا الجامعي التقيتها كانت أنفاساً حارة ، مصغية إلى لحن جنائزي حزين ، من مسجل مركون بجانبها . وعندما و صلت إلى غرفتي ، و هممت أن افتح بابها ، التفت إليها ، فتقاطعت نظراتنا في لحظة . تبدو لي الآن صغيرة جداً , في الوقت المستقطع ، لكنها قدرية كالموج القادم من وسط البحر . سمعت في عينيها نداء غريبا ، و شعرت نحوها بانجذاب عجيب ، فعدلت عن دخول غرفتي و اتجهت إلى آخر الممر نحو افريز النافذة." .. هكذا تعرفت إليها ، و علمت أنها تدرس في كلية الفنون الجميلة ، و تهوى التصوير الضوئي . • • • •
أذكر كيف كانت تتحدث ببطء مشددة على الأحرف الصوتية في كلماتها ، التي تتهاطل من فمها منجدلة مع لحنها الحزين الذي كانت تصر دائما على سماعه . بدت لي دائما متألقة كثلج روسيا ، وشفيفة كمطرها الأسيان . لم أدعها إلى فراشي يوما ، و هي لم تحاول اغوائي . لم نتواعد قط . كل لقاءاتنا في الممر مصادفة فأدعوها لشرب الشاي أو القهوة «كانت تحب قهوتنا التركية» أوتدعوني . علاقة غريبة جمعتنا واهية كخيوط العنكبوت ، و قوية كحبال أشرعة المراكب كأن شيئا خفيا من الأفكار والكلمات يجمعنا حتى مسافة معينة و يحيل دون تماهينا .. ما تخيلت يوما أنني سأقابل فتاة مثلها . روحها تضج بحزن الخريف ، و شوق أوراقه البرتقالية للرحيل. كم كنت أندهش و أنا أتأمل الصور المعلقة على جدران غرفتها و التي التقطتها بكاميرتها القديمة ، و أفكر بطريقتها في النظر إلى الأشياء ، واكتشاف الجمال المخبوء فيها ، فأحار في ذلك الحزن الذي يجتاح عينيها الروسيتين الصغيرتين الخضراوين ، كضباب الصباح فوق بحيرة تائهة فأسألها : لم تصرين على سماع تلك الموسيقى ؟ ـ لأنها تجعلني أطير ـ أنت دائما حزينة ؟ / أقول ـ لأنني بلا غاية / تغمغم • • • • هأنذا أنظر إليها ، وأتذكر احاديثها ، روحها الشقية ، و ذلك الألق الأبدي في غور عينيها . كلماتها و هي تردد :" إذا ما عاد لينين وحدق في الماضي ، سيدرك أن كل ما أنجزه وهم ، وربما سوف يشعر بالعار ". لم تكن تأبه بالأهداف أبدا . كثيرا ما تردد أن الدول البوليسية لم يصنعها مجرمون ، بل اشخاص سعوا وراء غاياتهم ، حتى المسيح كانت غايته المحبة فأصبحوا يقتلون باسمها . إييه.. ! فكرت فيها فتاة منذورة للحزن ، تنظر إلى الحياة فتراها سرابا ، خواء أو مزحة عابرة موغلة في تفاهتها ، فتتوه في ضباب ندائها الممجد ، و لا تأبه في السير وراء القطيع ... أنا لا أصدق هل رمت بنفسها من أعلى البناء حقا ؟ هل انتحرت ؟! أم حملتها أجنحة لحنها الجنائزي الحزين وطار بها لتتهاوى كندف الثلج الأبيض المتساقط . ام هو مصير انسان وجد في الزمان و المكان الخاطئين؟ |
|