|
ملحق ثقافي في أكثر من «حفرة «وأقل من تل ، في التضاريس الجغرافية بأنواعها : الجبال والسهول والوديان والصخور والرمال.. في ظلال أشجار السرو، وتحت أشجار اللوز، والأطيب مذاقا منها حين يتهشم غطاؤه بمجرد وضعه تحت الأسنان ليصل إلى اللب ويتذوقه بشهية. قيل له «إن تلك الحشرة الحية أو قل هي الحيوان الصغير الرقيق، أو قل هو المخلوق الضعيف الأعمى «يقدر أن يحفر تحت الأرض سعيا إلى الحياة، بل قل إلى الرزق، وهو لا يأبه إطلاقا إن أبصر نور الشمس أو ضوء المصباح أو القمر أم لا ، إنه مخلوق من غير عيون تبصر.. بل قد يكون خلق من دون عيون على الإطلاق، وعوضا عنها زود بطاقة وقدرة على الحفر والإختراق والتحسس، وعلى التقاط روائح ما ينعشه ويبقيه على قيد الحياة، وإن اضطر إلى أن يحفر عميقا، عميقا،
إلى حد الإحساس، بالإستشعار، أنه على وشك نبش ينابيع الماء – فإن كان قرب البحر، توجس انفجار المياه المالحة، وإن نبش بعيدا عن البحر، انبثق الماء العذب الصالح للشرب، بشريا، ولكنه قد يغرق ذلك المخلوق إن لم يتوقف عن الحفر فورا، فيفعل. إنه الآن في القاع. مزود بالمصباح المنير، وهو مربوط بالحبل وقد سمحت آلة السحب والجذب له أن يغوص في العمق قبيل أن ينتقل إلى السباحة وسط أضواء مدت أسلاكها الكهربائية في فلذات عديدة في النفق ، لكي لا يتحسس دربه في العتمة. وهو، أيضا، مدفوع بقوة البحث عن القوت، متأكد أنه لو قطع التيار الكهربائي فورا وساد الظلام لاستطاع أن يتحسس دربه إلى نهاية النفق. فثمة دائما ذلك الضوء المنسرب من سطح الأرض نهارا إلى العمق الغائر في الرمل كثيرا في «منطقة خزاعة» - شرقا. كان متأكدا أن مصيره لن يكون مثل «فراس»، الذي انهمرت وانثالت رمال الصحراء كلها فوقه، بعد أن اهتزت،وبعد أن اختضت، وبعد أن تفجرت، حتى ارتفعت ألسنة الرمال إلى ما فوق العشرين من الأمتار السود الملتهبة ، ما أدي إلى الإنهيار التام للبناء والنفق وانعدام المقدرة على إعادة الحفر من جديد واسترداد الجسد الحي، أو أي بضاعة كانت قد أرسلت إلى ذلك العمق. قال في نفسه : هي مغامرة، لاشك في ذلك، لكن مسؤولية الجماعة أن يتنبهوا إلى احتمال القصف.. يجذبون الحبل بقوة – فتكون أمامه ثواني معدودات عليه خلالها النجاح في الذهاب شرقا، وهناك يلطأ في مكان يدرك تماما أنه في «داخل «الحد الآخر قريبا من بيوت أخرى لا يمكن قصفها إلا خرقا لسيادة دولة أخرى مستقلة وكبيرة. إنه الآن في البحر الزاخر من الرمال،غاص عميقا جدا في الباطن الرطب الساخن، وهو قد أفلح في التقاط المطلوب – كميات من الزيوت، ومن الأطعمة المحفوظة المعلبة، ومن أدوات ضرورية جدا لبعث الحياة في «آلات «سحب الماء طلبها صاحب مزرعة دمّرت بالتجريف قبيل أكثر من ثلاثة أشهر وأحضر معها عددا من مضخات ماء صغيرة.وهو ذا في العمق لم يصل بعد إلى الحد النهائي – الداخلي – للحبل. أي هو طليق الآن – خلف الحد الفاصل «الآمن «. فالحد الخطر هو الذي يبدأ مع ربط الحبل حول خصره وكتفه واستعمال وجذب الحبل عدة مرات لكي يسحبوه من النفق وهم يدركون أن السهو ممنوع.. فان سهوا، وكان ثمة من سجل الهدف وإحداثياته، فمصيره لن يكون إلاّ مطابقا تماما لمصير «فراس». كانت عينا ابنته صفاء تتطلعان إليه، أما خافق أمها – سمية – فكان يضرب حتى خشي أن تسمعه كل المخلوقات المتربصة بالحياة في الكرة الأرضية هذه. والكرة الأرضية بالنسبة إليه هي المسافة المقطوعة بأمان من حيث كان – مع البضائع الضرورية – إلى حيث يجب أن يكون.وهي المرة الخامسة له في هذه الحرفة – إن كان المغيب في باطن الأرض والتعمق في قاع المحيط يوصل إلى الصدف حيث ينبغي أن يكون «الدر « كامنا، وليس أفضل من «درّ «هو في حقيقة الأمر مدرار الحليب للرضيع من ثدي أم رؤوم. قال وهو يزحف على بطنه ويجر ثقل البضاعة في العمق الساخن ذاك : يا أم صفاء والله ما أرغمني على هذا المر إلاّ ما هو أمر منه وأدهى.. فكيف لي أن أطيق حياتي وأنا عاطل عاجز وليس بي ما يعيب من جسد ومن روح، واليد البطالة نجسة. والله كنت اسعد الخلق بكما، وأنا إلى اللحظة الراهنة، ههنا، أفضل أن أكون المخلوق الأعمى القادر على استدرار، بل انتزاع الرزق من بين أنياب الخطر، على القاعد عن العمل انتظارا لذل «رحمة الآخرين» من دون الله. كان بين حالين :إما الظفر بنظرة السعادة والفخار من عيون أهله وأسرته وإما.. لم يتم.. فثمة من قال له – غريزيا – إن أمرا جللا قد حدث. وهو كان قد ربط الحبل، وراح يسحب ما غنمه، وراءه، في اتجاه يدرك أن نهايته ضوء.لكن، في اللحظة التالية، كان ثمة الظلام، فهوى منه الخافق بين يدي الرمل المتحرك، من طرفيه. ما صدق ما يجري، فبادر إلى فك نفسه من الحبل، وحاول التراجع إلى الحد الأكثر أمنا. ما عاد يبصر، هذا مؤكد، وعليه التحرك بسرعة فائقة، يتحسس الطريق على هدي من «مجساته «، بيد أن المجسات أعطبت أيضا، وقد اصطدم جسده بعربة البضائع، وهي تتلقى أثقالا رهيبة من الرمال. وشعر بالنفس في الصدر يضيق. ما لعينيه ما عادتا تبصران، وما لأنفه ما كان يشم إلاّ ما يوحي با لزفر والتقزز ؟ أين هو من قاع المحيط، فالسمك هناك من دون رائحة زنخه، والعطن ليس من شيم المحيط، وهو يدرك اللحظة تماما أنّ مصير فراس هو ذاته الذي كان نتاج اللحظة الخاطفة من لحظات الغفلة القليلة.. عن «القصف». كاد أن يبادر إلى الصراخ، لكن نظرة الطفلة الجريئة المنتظرة أخرسته فقال لها بصوت مخنوق يغالبه الحزن الشديد : والله يا صفاء، ما أنا بصارخ إلا لكي أكون إلى جانبك وأمك، وأنعم بنظرات الفخر تتناثر دررا على العالمين، إذ أظفر برضاك، ودفء ابتسامة أمك. بدأ يسعل، وقد تراخى كل ما فيه متجها إلى الخدر والغوص إلى القاع، سد منخريه بملقط الغواصين. قريبا من مكان الحبل المدلى كما لو أنه في اليمّ، كان رجلان منهمكين في الشد والجذب والصراخ وإبداء الذعر، وكانا يصرخان ويكرران كالملدوغين : أين أنت يا أبا صفاء.. أين أنت يا رجل ؟ استبدت بهما الحيرة وشلهما الوهن واليأس، وقد تناثر كل شيء من حولهما يتراكم متجمعا حول فم النفق كالزبد. تراكض الناس، وتنادوا لعلهم يقدمون مساعدة، فمنهم من زفر وتأسى ، ومنهم من تطلع إلى السماء واستغفر وتوسل ، بعض النساء لوحن بأذرع حائرة نحو مجهول، ومنهن من شدت الشعر ومزقت الوجنتين.في البعيد الغائر من الرمل بعد أن تناثر في الفضاء الشاسع كان ثمة من بدأ يحفر مثل «الخلد».. ولكن بعيون تبصر. |
|