تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ضمائر السرد في الخطاب متعدد الأصوات

ملحق ثقافي
23/3/2010
نذير جعفر : ما دلالة اختيار ضمير الغائب أو المتكلّم أو المخاطب في السرد, والاقتصار على أحدها أو الجمع فيما بينها في عمل روائي واحد؟ وما الفرق بين صيغة وأخرى من هذه الصيغ؟ وهل من وظائف جمالية مختلفة لكل منها؟

تلك الأسئلة وغيرها تطرح نفسها عند تحليل عناصر الخطاب الروائي ومحاولة الكشف عن آليات اشتغالها وتحقّقها الفنّي. ويبدو الاهتمام بالإجابة عنها ما زال محدودا في المنجز النقدي العربي, ولا يتجاوز بعض الاجتهادات المتفرّقة هنا وهناك, التي لم تظهر حتى الآن تحت عنوان مستقلّ بها!‏

لقد بات التمييز بين المؤلف الحقيقي والراوي ـ أيّاً كانت صيغته ـ أمرا معهودا وضروريا في المقاربة النقدية, كما بات من الضروري التمييز بين صيغ الضمير المختلفة التي يتستّر وراءها الرواة. فكل صيغة توجّه السرد وراويه في مسار, وتشي بهذا القدر, أو ذاك, بقربه, أو ببعده, أو بمطابقته لصوت المؤلف الحقيقي, كما تشي بوجهة نظره عن العالم من حوله.‏

وسنحاول في هذه القراءة الأوليّة لنماذج من الرواية السورية المعاصرة الوقوف على صيغ: سرد الغائب, وسرد المتكلّم, وسرد الأصوات المتعدّدة, ودلالاتها وجمالياتها,عبر ارتباط كل منها بشكل حضور الراوي.‏

سرد الغائب‏

في هذا النوع من السرد الذي يسم الرواية الكلاسيكية على وجه الخصوص ـ دون أن يتوقّف عندهاـ يكون فيه الراوي كليّ المعرفة, مهيمنا, خارج نطاق الحكي, يقف وراء الأحداث والشخصيّات, ويوجّهها من بعيد نحو مصائرها. إنه ـ على حدّ تعبير سعيد يقطين ـ «يروي من منظوره الخاصّ لأنه سيّد العالم السردي الذي يملك مفاتيحه وأسراره بكثير من الثقة والاطمئنان»»1». وهذا المنظور قد يبدو من خلاله حياديا حيناً, مجرّد شاهد على ما حدث, فيقنع قارئه بخطابه, أو منحازاً حيناً آخر لفكرة يحاول الانتصار لها بتدخّله المباشر فيثير الشكوك حول مصداقيته الفنيّة والإيديولوجيّة.‏

إن سرد ضمير الغائب في صورة الراوي الأحادي ما زال سردا أثيرا عند كتّاب الرواية السورية على اختلاف اتجاهاتها وأجيالها, بما في ذلك بعض الكتّاب الذين ينوّعون بين عمل وآخر في صيغة الراوي وتقنيات السرد.‏

فمع رواية حنا مينه الأولى: «المصابيح الزرق» تبرز صورة الراوي كليّ المعرفة الذي يقدّم الشخصيات بأوصافها وأفعالها وأقوالها بمنظور واقعي اشتراكي, ويصف الأمكنة, والطبيعة, دون أن يخفي انحيازه غير المباشر لبطل روايته «فارس» وما يمثّله من حلم في انتصار الحقّ.‏

وعلى الرغم من اختلاف المنظور بين وليد إخلاصي وسابقه إلا أنه يلجأ أيضا في روايته الأخيرة: «رحلة السفرجل» إلى سرد الراوي الغائب الذي يسهم في تعزيز النزعة الحكائية الشائقة والممتعة, ولا يشتّت انتباه القارئ, لكنّه في الوقت نفسه يقفز فوق تنوّع الأصوات والنبرات ولا يقدّم في النهاية سوى لغة المؤلف وخطابه الوجودي الذهني, فيغدو بذلك مجرّد قناع له لا راويا محايداً.‏

وينحو عبد الكريم ناصيف في روايته: «الخروج من عنق الزجاجة» المنحى ذاته في توظيف سرد ضمير الغائب بصورة الراوي الأحادي كليّ المعرفة, وإن اختلف منظوره الواقعي النقدي عن منظور سابقه الوجودي. وعلى الرغم من محاولته الوقوف على الحياد فيما يصوّره وينقله ويعرضه, فإنه لا يتوانى أحيانا في اتخاذ راويه مجرّد قناع لصوته الذي يطلّ من بين السطور مقتحما البرنامج السردي, معبّرا عن وجهة نظره المنحازة للحقّ والخير والجمال.‏

وفي «المترجم الخائن» لفوّاز حدّاد ينهض السرد أيضاً عبر ضمير الغائب على لسان الراوي كليّ المعرفة, الذي لا يكتفي بدور الشاهد, بل يعلّق على الأحداث ويستبق ما سيأتي منها بإشارات سريعة تكسر الرتابة وتشي بمنظور ورؤية المؤلف المتعاطفة مع بطله المحاصر بالزيف.‏

ونلحظ الراوي/الغائب, الأحادي, الذي يسوس السرد من أوّله إلى منتهاه أيضا, عند كل من: محمد أبي معتوق في «جبل الهتافات الحزين», ونيروز مالك في «جبل السيّدة», وخليل الرّز في «أين تقع صفد يا يوسف؟».‏

إن أحادية الراوي وهيمنته على البرنامج السردي تصبغ النّص غالبا بأسلوبيّة لغوية واحدة هي في المحصّلة أسلوبية المؤلف. وهذه الأسلوبية التي لا تراعي تنوّع اللغات واللهجات والنبرات الاجتماعية تحدّ من قدرة الشخصيّات على التعبير عن نفسها بنفسها لأن هناك من ينطق باسمها ويقدّمها إلى القارئ بصوته هو حتى في معظم المشاهد الحواريّة التي تتطلّب أن يتناسب منطوق الشخصيّة مع واقعها ووضعها الاجتماعي والثقافي والمهني.‏

سرد المتكلّم‏

السرد بضمير المتكلّم يوهم بتطابق أو بتماهي صوت الراوي في النّص مع صوت المؤلف الحقيقي في الواقع, كما يوهم بواقعية التجربة وحقيقية الشخصيّات, ومن هنا يأتي الربط الظالم بين شخصيّة المؤلف وشخصيّة بطله! مع أن السرد بضمير الغائب أو المخاطب قد يكون أحيانا اختيارا فنيّا حتى في مجال رواية السيرة.‏

في هذه الصيغة لا يكون الراوي خارج العالم الروائي كما هو الشأن بالنسبة إلى ضمير الغائب, بل شخصيّة مركزية فيه, أو شخصيّة مشاركة في صنع أحداثه. وهذا ما يسمح بتأويل خطابه بوصفه خطابا للمؤلف, وتحديد وجهة نظره بوصفها وجهة نظر المؤلف نفسه. مع أن آلية التحليل النّصي لا تقتضي ذلك إلا إذا كان هناك قرائن مرجّحة.‏

ففي رواية هاني الراهب: «المهزومون» يتتالى السرد عبر ضمير المتكلم على لسان الشخصيّة المركزيّة «بشر» الذي يحيل على شخصية المؤلف الحقيقي ويوهم بها. وهو لا يكتفي بنقل الأحداث أو تصويرها بل يشارك في صنعها كطرف رئيس فيها, وبذلك يقف معها لا وراءها, وهذه الصيغة أتاحت للشخصيّة إمكانية البوح الذاتي في استحضار ماضيها وعلاقتها بالحاضر وما رافق ذلك من تداعيات وذكريات وتعليقات تستوقف القارئ وتحفّزه على التأمل كطرف مشارك في العمل الروائي. لكن اقتحام سرد السيرة برنامج السرد الروائي جعل من صوت الراوي المتكلّم «بشر» بؤرة مركزية تطغى على ما عداها وتصبغه بصبغتها, عدا ما يتعلق بشخصية «ثريا» التي ظهرت بنبرتها ومنطوقها المختلف الذي أضفى تنوّعا كلاميا على السرد الحواري وخلّصه من إيقاعه المتماثل.‏

وعلى هذا النحو يمضي حيدر حيدر في «الزمن الموحش», ناهضا ومتماهيا بالسرد عبر ضمير المتكلّم الأحادي المهيمن, الذي لا يكاد المتلقيّ يسمع سواه حتى عندما يتاح للشخصيات التعبير عن نفسها في المشاهد الحوارية! وإن كان ما يميزه عن أقرانه غنى معجمه اللفظي والتعبيري, والاشتغال على جمالية اللغة الاستعارية, تصويرا, وإيحاء, ودلالة نفسية, وتراثية, وإيديولوجية.‏

سرد الأصوات المتعدّدة‏

إن هيمنة الراوي ـ سواء أكان متكلّما أم غائباً ـ على البرنامج السردي برمّته, بوصفه راويا أحاديا يتحدّث باسمه وينوب عن غيره, يحرم النّص من تعدّد الأصوات والنبرات, ويجعل من الرواية ذلك الفن «الأوركسترالي» مجرد عزف منفرد.‏

أما عندما تتعدّد الأصوات ويسمح الراوي المتكلّم أو الغائب أو المخاطب لغيره من الشخصيّات بالكلام بما يتناسب مع منطوقها وكينونتها النفسية والاجتماعية والثقافية داخل النص, فإن البرنامج السردي يتحرّر من الهيمنة الأحادية, ويغتني بالتنوّع الذي يقارب الحقيقة النسبية من مواقع مختلفة, ويترك بذلك مجالا للشك والالتباس والتأويل بما يسمح بتعدّد القراءات والرؤى والمواقف من أبطال الرواية وأحداثها, وبذلك تتعزّز فنيّتها, وأوجه الجمال والمتعة فيها, كما هو الأمر في رواية خيري الذهبي: «لو لم يكن اسمها فاطمة» التي لم تقتصر على ضمير الغائب أو المتكلّم إنما لجأت إلى السرد المتناوب عبر الضمائر الثلاثة بما في ذلك المخاطب, كاسرة بتناوبها نمطية السرد, ومولّدة التوتر الدرامي, وناقلة المتلقّي من عتبة الاسترخاء في صيغة الراوي الأحادي إلى عتبة الفاعلية الذهنية والتخييلية.‏

وهو ما يلحظه القارئ في رواية نبيل سليمان«دلعون» التي ينهض برنامجها السردي على تعدّد أشكال حضور الراوي ما بين الراوي الغائب, الشاهد/ كليّ المعرفة, الذي يكتفي بتصوير الأحداث والشخصيّات بحياد, دون أن يكون عنصرا فيها, والراوي المشارك الذي لا يكتفي بنقل الأحداث بل يشارك في صنعها ويكون شخصيّة محورية فيها, ويتمظهر في صيغتين, الأولى: ضمير المتكلّم, والثانية ضمير المخاطب. وهذا التعدّد في صيغ الراوي الذي ترافق مع تعدّد صيغ السرد ما بين النقل والإخبار البانورامي في المشاهد الوصفية, والعرض الممسرح في المشاهد الحوارية, أتاح للشخصيّات حرية القول والتعبير عن نفسها أولا, ونأى بالبنية السردية الكليّة عن الرتابة المملة, وأضفى عليها بعدا دراميا شائقا ثانيا, وكشف عن تنوّع الأصوات والنبرات واللهجات والأرغات المهنية والمرجعيات الاجتماعية والفكرية والإيديولوجية ثالثا, وكل ذلك يصب في بلورة وتأصيل وعي جديد بالجنس الروائي, وبإمكانياته, وبآليات تحققه الفنيّ, لم ينجح فيه من قبل في روايته «ثلج الصيف» على الرغم من تعدّد الأصوات فيها»2»!‏

فقد تتعدد الأصوات أحيانا, وتضفي دينامية خاصّة, وتشويقا على السرد, وتنأى به عن هيمنة الراوي الأحادي, وتثريه بوجهات نظر مختلفة, لكنها لا تحقّق التنوّع الكافي في اللهجات والنبرات الاجتماعية والمهنية التي تبرز التباين بين منطوق شخصيّة وأخرى, كما في رواية حسن حميد: «أنين القصب», ورواية غسّان كامل ونّوس: «أوقات بريّة» اللتين تنشغلان بجماليات التعبير الشاعري لا بجماليات الأسلبة الروائية لمنطوق كل شخصيّة على حده.‏

لا شك أن المشهد الروائي يزخر بمعطيات فنيّة جديدة على مستوى توظيف ضمائر السرد في الرواية متعدّدة الأصوات, وهي تستدعي مزيدا من المقاربات النقدية التي تصبّ في هذا الاتجاه.‏

الهوامش:‏

1ـ الرواية العربية"ممكنات السرد" : أساليب السرد الروائي ـ سعيد يقطين, أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين ـ الكويت 2009, ص 141.‏

2ـ نعيسة, د.جهاد: في مشكلات السرد الروائي, اتحاد الكتاب العرب, دمشق, 2001, ص239 وما بعدها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية