تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأزمة اليونانية والخيارات الأوروبية المتاحة...!

شؤون سياسية
الأحد 23-5-2010م
د. إبراهيم زعير

قد يكون من الممكن أن تتجنب اليونان الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة، التي أوصلتها إلى حافة الإفلاس التام، الذي يقود عادة أي بلد إلى الانهيار التام، لو أنها منذ البداية لم ترهن اقتصادها الأقل تطوراً إلى اقتصاديات الدول الأوروبية

المتأثرة بدورها بالأزمة الدورية الرأسمالية الكبرى التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من عامين بقليل. وأزمة اليونان الراهنة، تعود أساساً إلى ربط الاقتصاد اليوناني، بالاقتصاد الأوروبي والأمريكي ، وخضوعها لسياسة الاتحاد الأوروبي والاستعاضة عن عملتها الوطنية ( الدراخما) باليورو.‏

وتخليها وفق مقتضيات تعليمات الاتحاد الأوروبي، عن محاصيلها الاستراتيجية المشهورة بها، كالزيتون والزيت والحمضيات وغيرها، التي كانت الدافع الرئيسي لاقتصادها الوطني، والتحول إلى الاقتصاد المعتمد على السياحة والورود التي سرعان ما تأثرت سلباً وبعمق بتراجع الاقتصاد العالمي الذي شمل دول أوروبا، ما أدى إلى كساد في تصديرها للورود وتراجع السياحة ،وبما أنها تخلت عن إنتاجها الوطني الرئيسي، دون أن يكون لديها من الثروات الطبيعية، القادرة على تعويض اقتصادها المفقود، فإنها سرعان ما تحولت إلى ضحية الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية. وأخذت تعاني من أزمة بين دخولها المالية الفعلية ونفقاتها التي فاقت دخلها الوطني، بسبب تراجع انتاجها، ولجأت رغماً عنها لسد هذا العجز باستقراض الديون الخارجية، التي وصلت إلى نحو 400 مليون يورو، وهي بلد صغير وضعيف مقارنة مع ما تحتاجه ومع اقتصاديات الدول الكبرى التي حافظت على انتاجها الوطني، لاسيما أنها لم تكن مهيأة وغير قادرة أصلاً على الدخول في سوق المضاربات المجنونة في وقت شاع فيه التلاعب بالسندات والقروض والأوراق المالية «المستقبلية» وبنقود وهمية لا تمثل إنتاجاً وطنياً فعلياً، فالأموال المتراكمة لم تجد منفذاً لها بالإنتاج لأن النظام الرأسمالي القائم في العالم المأزوم يتجه لمحاصرة البلدان الصغيرة المرتبطة به عضوياً لتكون كالبقرة الحلوب لجني أكبر قدر ممكن من الأرباح على حساب شعوب واقتصاديات هذه البلدان الهشة. والمشكلة أن رؤوس الأموال الأجنبية المستثمرة في اليونان بالتعاون مع بعض كبار الرأسماليين المحليين، دأبت على المضاربة بالقروض لجني الأرباح الهائلة، دون أن تجد طريقها للاستثمار في المجالات الإنتاجية . وبدأ العجز الكبير في الدولة ومؤسساتها الخاصة المقترضة، فوجدت نفسها في وضع غير قادرة فيه على تسديد القروض التي تلقتها من البنوك الأجنبية، وإذا تمكنت بعض الدول الرأسمالية الكبرى الغنية من التخفيف من أزمتها بضخ أموال هائلة في بنوكها، للحفاظ على دورة إنتاجها ، إلا أن اليونان الضعيفة، لم تستطع فعل ذلك إلا باستقدام المزيد من القروض، ما عزز الأزمة لاحقاً عوضاً عن حلها، وإذا ما خففت منها مؤقتاً، إلا أنها سرعان ما سقطت في أزمة العجز في تسديد الديون القديمة والجديدة معاً.‏

وغض الاتحاد الأوروبي بدوله الغنية النظر عن توجه اليونان لصندوق النقد الدولي، وهو المؤسسة المعروفة التي أقامها الرأسمال العالمي لتنفيذ سياسته علي المستوى الدولي، ووافق منح اليونان قرضاً مبدئياً قيمته 30 مليار يورو كدفعة أولية، أملاً في إنقاذ اليونان من السقوط، ولكنه وكعادته فرض شروطه المجحفة على اليونان ، والتي ستؤدي عملياً إلى الخضوع الكامل لرأس المال الاحتكاري العالمي وإلى إملاق الشعب اليوناني في آن واحد، فأحد شروط صندوق النقد الدولي هو أن تتوقف الحكومة اليونانية عن دعم أي مواد مخصصة للاستهلاك العام، واتخاذ اجراءات تقشف شديدة تحت ذريعة توفير الأموال لسداد قروض الصندوق . وبطبيعة الحال سيقدم الصندوق قروضاً جديدة على شكل دفعات على مدى ثلاث سنوات، شريطة أن تثبت الدولة اليونانية أنها جادة في تطبيق شروطه التي اضطرت للالتزام بها. وبدأ الشعب اليوناني وخاصة فئاته وطبقاته الفقيرة وحتى المتوسطة، تشعر بأن الحكومة أخذت تسعى لحل مشكلتها المالية وأزمتها الاقتصادية على حساب لقمة عيشه، فخفضت الأجور حتى للمتقاعدين وبعض العاملين في المؤسسات العسكرية، وجرى ذلك في وقت تتصاعد فيه الأسعار ويتزايد التضخم، وتنتشر البطالة والمواصلات، والثقافة وحتى رياض الأطفال، وهكذا وقع الشعب اليوناني ضحية تلاعب رأس المال الأجنبي والمحلي في البورصات وبات الناس العاديون وكأنهم هم المسؤولون عن الأزمة ، وبالتالي يدفعون فاتورتها. بينما الأغنياء يزدادون غنى وخاصة أولئك الذين ارتبطت مصالحهم وأرباحهم بالرأسمال الأجنبي والرأسمالي العالمي. وهذا ما دفع اليونانيين للنزول إلى الشوارع احتجاجاً على اجراءات الحكومة التقشفية غير العادلة، وعمت شوارع اليونان الملايين استنكاراً لسياسة الحكومة وخضوعها لشروط صندوق النقد الدولي. والمعضلة إذا ما فرضت الحكومة ضرائب باهظة على رأسمالييها المرتبطين برأس المال العالمي، فإنهم سيلجؤون إلى تهريب رؤوس أموالهم من اليونان ، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد .‏

وهناك اليوم دول مرشحة بقوة لتطولها الأزمة العالمية كما طالت اليونان وأبرزها والبرتغال واسبانيا وإيرلندا وحتى إيطاليا والنمسا وبلجيكا وفرنسا التي تعاني من مديونية توازي أو تتجاوز ناتجها الداخلي الإجمالي .‏

والسؤال هل هناك مخرج من الأزمة؟ الحل الوحيد بإيجاد نظام عالمي اقتصادي أكثر تطوراً وعدلاً، والتخلص من سطوة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات المتمثلة في مؤسساتها المالية الدولية ( البنك الدولي للتعمير والإنشاء وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية،) ورغم التصريحات المتفائلة المنافقة لممثلي رأس المال العالمي، فإن حل الأزمات المتلاحقة الدورية والعامة غير ممكن إلا بإقامة نظام تنتفي فيه المضاربات الرأسمالية وهيمنة الاقتصاديات الكبرى على الضعيفة والأقل تطوراً، وإقامة نظام عادل من توزيع الثروة والخيرات على الشعوب.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية