|
مجتمع لكن مع مظاهر الترف وسياسة المصالح نجد هذا التقليد قدأخذ مناحي بعيدة عن مقصده الأصلي وهي المحبة والألفة وتوثيق العلاقات بين الناس وبدأنا نشهد اتجاهاً آخر كالمصلحة والتباهي والتظاهر بمظاهر تافهة ورخيصة، والذي يحصل أننا نرهق أنفسنا وربما نستدين من أجل تقديم هدية تليق بمظهرنا المصطنع أوبكمّ المصلحة التي لنا ، متناسين أن رسالة الهدية هي المحبة والاحترام اللذين نكنهما لمن نقدمها له ورحنا نشوه المعنى الجميل كتشويهنا لمعان كثيرة في حياتنا، ليتحول الى معنى أوحد وهو المصلحة «الرشوة»، بالإضافة الى أن الهدية غدت عبئاً ثقيلاً علينا مادفعنا الى الهروب من بعض الواجبات الاجتماعية واختصار العديد من العلاقات تجنباً للحرج وتخفيفاً للعبء المادي، فتبدو ظاهرة التهادي هنا ظاهرة اقتصادية ولكن مارسيل موس ينظر إليها من زاوية مختلفة فهو يرى أن ظاهرة التبادل الاجتماعي في الحفلات والولائم والأعياد والمناسبات الأخرى ترجع الى مبدأ كامن في قرار العقل البشري وهو مبدأ الأخذ والعطاء وهذا المبدأ يمثل الأساس لعلاقات التماسك بين الأفراد والجماعات . فالتهادي كظاهرة اجتماعية منتشرة في جميع المجتمعات تقريباً فهي إذاً تقوم بوظيفة اجتماعية ألا وهي توطيد العلاقات الاجتماعية وتكوين الصداقات ، وهذه الظاهرة الايجابية لايمكن النظر إليها بمعزل عن بقية النظم الاجتماعية الأخرى من سياسية ودينية واقتصادية وقرابية وغيرها. وما الهدية التي نقدمها في مناسبة زواج أو ولادة أو عيد ميلاد إلا تعبير عن المحبة وتكوين صداقة حقيقية تقرب بيننا وبين من نحبهم ، وكذلك هدية الزوجين لبعضهما في المناسبات الأسرية هي تعبير عن احترام ومحبة أو هي اعتذار عن موقف أوكلام مؤذ تختصر المسافات وتقرب القلوب،وهدية كل منا الى أمه في عيد ميلادها تقديراً وإجلالاً لتضحياتها العظيمة ، فالهدية تقوم بوظيفة جليلة بعيدة عن الدوافع الاقتصادية وعن تحريفنا لها بالشكل الذي هي عليه اليوم، ينكر مالينوفسكي قيمة الدوافع الاقتصادية في مجال التبادل الاجتماعي حيث يرى أن سلع التبادل الاجتماعي ذات قيمة رمزية فقط ، وأن وظيفتها تتمثل في إيجاد التعاون والتساند والتضامن الاجتماعي بين الافراد والجماعات المشتركة في عمليات التبادل الاجتماعي. كنت في زيارة لأخوالي في لبنان فذكروا لي ظاهرة تخص دعوات حفل العرس حيث تتضمن الدعوى الموجهة للناس رقم حساب الشخص بالبنك ،وذلك لوضع مبلغ في حسابه من قبل الآخرين كون البنك موجوداً في الضيعة، ومن لا يدفع لايحضر، الكثير منا لايدرك المعنى الحقيقي لظاهرة التهادي وماتحمله الهدية من معانٍ سامية ، فهناك من يرفضها رفضاً تاماً لأنها تشكل عبئاً مادياً وإحراجاً مع الآخرين ، وهناك من يجدها رشوة لمصلحة ما وهو لايحب هذا النوع من التعامل حيث يسيء الناس الفهم ،وهناك من يرغب بالتهادي مع الآخرين لأنه تعبير عن الألفة والتواصل بين الناس . ولكن مانجده من تحريف للظاهرة بقصد المتاجرة بعقول الآخرين وأموالهم كظاهرة عيدالحب والمتاجرة الرخيصةبمشاعر الشباب والمراهقين، بالإضافة الى مايحققه أصحاب المحال من ربح مادي، فالمفهوم المطلق للحب يشوه ويحرف لأغراض سيئة والضحية هم الشباب الذين ينجرفون وراء هذه الظاهرة الدخيلة. يرى أحمد أبوزيد في تحليله لنظام الكولا أنه على الرغم من كثرة العلاقات الثنائية التي تضم آلاف الناس فإن كل هذه العلاقات المتنوعة تنتظم في آخر الأمر في شبكة واحدة من العلاقات والصلات ، بحيث تؤلف نسيجاً واحداً متماسكاً يضم جميع الذين يبحرون بقواربهم في رحلات منتظمة يقطعون خلالها مئات الاميال للتبادل والتعارف، وهذا مانجده في الجوائز العالمية التي تمنح للعلماء والأدباء والفنانين تقديراً وتعظيماً لهم على إنجازاتهم تجاه البشرية جمعاء ، وكذلك الميداليات التي ينالها الرياضيون أو الأوسمة التي يحوزها الابطال هي هدايا رمزية، ولكنها ذات قيمة معنوية كبيرة تختصر تاريخاً من العمل والنضال يستحق صاحبها أن نحبه ونكرمه بهدية. فظاهرة التهادي تجديد للتواصل الاجتماعي والأسري وتعبير عن المحبة والاحترام تجاه الآخرين، فلابد من تعزيز هذه الظاهرة في المجتمع وشرح أهميتها وانعكاساتها على الأفراد والجماعات . |
|