|
شؤون سياسية الجديدتين (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي ) في ذلك الوقت طرح سيئ الذكر أيزنهاور نظرية أو مقولة أو مبدأ (سد الفراغ) وكان المقصود في هذا المبدأ أن فراغاً استراتيجياً نجم عن أفول امبراطوريتين في منطقة الشرق الأدنى والأوسط وعلى الولايات المتحدة القوة العالمية الصاعدة أن تأخذ على عاتقها ملء ذلك الفراغ الذي أشرنا إليه, وبدأت فعلاً بترجمة هذا المبدأ عبر إقامة منظومة متكاملة من القواعد والأحلاف العسكرية غطت مساحة الشرق الأدنى والأوسط من ليبيا إلى الباكستان مروراً بكل دول وأشباه دول المنطقة. كلنا يذكر حلف بغداد وحلف المعاهدة المركزية وغيرها من الأحلاف والتي كانت موجهة أساساً لتطويق الاتحاد السوفييتي القوة العظمى الثانية والمناقضة للولايات المتحدة الأميركية, وفي هذا السياق شهدت المنطقة صراعات محلية بين فريقين , فريق يؤيد هذه الاستراتيجية (وأبرز من مثله كميل شمعون في لبنان ونوري السعيد في العراق) وبنتيجة هذا الصراع تمكن التيار أو المعسكر الوطني والقومي من تحقيق انتصارات مهمة وليس أدل على ذلك من قيام ثورة 14 تموز في العراق وإنهاء حكم نوري السعيد وبالتالي إنهاء حلف بغداد,أضف إلى ذلك أن الانتفاضة الشعبية العارمة أو الثورة كما يحلو للبعض تسميتها والتي حدثت في لبنان الشقيق أنهت حكم كميل شمعون وضمنت موقع لبنان بعيداً بعض الشيء عن الأحلاف والتوجهات الأميركية في المنطقة.في عام 1991 حدث الزلزال الدولي وانهارت القوة العظمى المنافسة والمناقضة للولايات المتحدة الأميركية بنتيجة (حرب باردة) كان قد أعلن عنها ونظر لها ووضع اتجاهاتها الأساسية ونستون تشرشل بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية, هذا الانهيار وبطبيعة الحال وما رافقه من انهيار المنظومة الاشتراكية وما كان يسمى ب (حلف وارسو) أدى إلى نشوء وضع جيواستراتيجي شبيه تماماً بما حدث عام 1956 إذ إن أوروبا الوسطى أو دول شرق أوروبا كما يسميها البعض إضافة إلى البلقان وصولاً إلى آسيا الوسطى وبعض مناطق القفقاس حدث فيها فراغ استراتيجي وهذا ما يسمح لنا بمقارنة الاستراتيجية وخاصة ما عبرت عنه فلسفة المحافظين الجدد بشكل عملي وفاضح, ويمكن القول إن العناصر الأساسية التي تتحكم وتوجه هذه الفلسفة تقوم على مبدأ سد الفراغ الاستراتيجي المذكور سابقاً. من هنا يمكننا أن نفهم جيداً أن الأميركان أرادوا من تنفيذ هذا المبدأ تحقيق خمسة أهداف استراتيجية وفي حال نجحوا في تحقيقها يكون العالم بكليته أصبح منطقة نفوذ أميركية وهم بتواجدهم السريع والمتعدد الأشكال عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً على امتداد القوس الذي يمتد من بحر البلطيق مروراً بأوروبا الوسطى والبلقان مروراً بالشرق الأوسط وصولاً أقصى حدود آسيا الوسطى أي إلى حدود الصين يريدون أن يقولوا لكل مراكز القوى الاقليمية بأن فصول المسرحية القديمة قد انتهت وأصبح هناك مسرحية واحدة من فصل واحد وممثل وحيد هو العم (سام). وبالفعل لو حاولت أوروبا أن تبتكر لنفسها صفة اتحادية قادرة على منافسة الولايات المتحدة فهي ستشعر بأنها عاجزة بنتيجة ما أسلفنا عن الاختراق الذي حققه الأميركيون في عمق أوروبا (بلدان أوروبا الشرقية) وهذا ما تجلى بشكل واضح في اتجاه الأحداث والصراعات التي شهدتها منطقة البلقان في تسعينيات القرن الماضي, هذا فيما يخص أوروبا.أما فيما يخص روسيا هذا النمر الجريح فهم أرادوا أن يقولوا لها: لن نسمح لكم مرة أخرى بشغل موقع على الصعيد الدولي إلى جانبنا, وأفضل ما يمكن أن تفعلوه هو الاهتمام بشؤون بلدكم فنحن أصبحنا على حدودكم الغربية والجنوبية, أما الهدف الثالث والذي لا يقل أهمية عن محاصرة أوروبا وروسيا فهو السيطرة على الشرق الأوسط, وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الشرق الأوسط لا تكمن أهميته في موقعه الاستراتيجي فحسب بل هناك العنصر الحيوي المهم ويمكننا أن نقول الحاسم لجهة سيطرة وقوة من يتحكم بهذا الشرق الأوسط وفرض إرادته على العالم ونقصد بذلك (النفط) الذي يتواجد احتياطيه الأكبر في هذا العالم في مساحة هذه المنطقة من بحر العرب إلى بحر قزوين, أما الهدف الرابع فيتمثل بتحذير ميداني وعنيف للصين هذا المارد الآسيوي الذي استيقظ للتو والذي كان يقول عنه نابليون: من الأفضل لنا أن يبقى نائماً إذا تحذير هذا المارد بأننا هنا انظروا جيداً فنحن في أوزبكستان وطاجكستان وافغانستان وقرغيزيا, بمعنى آخر نحن على حدودكم الغربية ولن نسمح لكم بالتوجه غرباً. والهدف الخامس يكمن في حصار إيران بصفتها مركزاً جاذباً وحيوياً ليقظة إسلامية راديكالية معادية للتوجهات الاستعمارية الأميركية وما تفرزه من هيمنة وتسلط واستغلال لن يكون ضحيتها إلا أبناء هذه المنطقة. وفقاً لهذا التوصيف يمكننا أن نفهم بشكل جيد وعملي السلوك السياسي العملياتي الأميركي في كل منطقة على حدة وبما ينسجم ويتجانس مع المنظومة الاستراتيجية التي أشرنا إليها. ففيما يخص منطقتنا العربية أو ما يسمونه (الشرق الأوسط) هناك استراتيجية أميركية فرعية ولدت من رحم الاستراتيجية الأم (سد الفراغ). ومضمون هذه الاستراتيجية وكما أشاروا هم وعبروا بوثائق ومستندات تهدف إلى تمزيق هذه المنطقة إلى كيانات هزيلة بالحد الأقصى لا تستطيع الحياة بمعزل عن التحاقها بقوى أخرى تحفظ وجودها وإمكانية استمرارها, هذا الوجود وهذه القوة التي على الكيانات البديلة أن تلتحق بها وتطلب حمايتها بالطبع ليست الفلبين ولا المكسيك ولا الدانمارك إنها (إسرائيل) ومن هنا وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم ما حصل في افغانستان والعراق وما يحصل الآن في لبنان الشقيق وفلسطين المحتلة. إذا الموضوع ليس بهذه البساطة وليس بهذه الديماغوجيا (الحرية والديمقراطية) التي لم تكن إلا القفاز المخملي الذي يخفي بداخله القبضة الأميركية الشريرة والشنيعة والجهنمية على منطقتنا. نريد أن نختم بالقول بثقة وببساطة أن حسابات حقولهم لن تنطبق على حسابات بيادرنا. |
|