|
شؤون سياسية وما سر التذبذب المستمر في الخطاب الرسمي الأمريكي الذي يدعي الحرص على الذهاب إلى جنيف، وفي الوقت نفسه يحرص المسؤولون الأمريكيون على الظهور كوكلاء عن الشعب السوري ويسوًّقون قراءاتهم الخاطئة على أنها مسلمات يطالب بها الشعب السوري الذي ذاق الأمرين جراء الحقد الأمريكي على الدولة السورية الرافضة لكل ما ينتقص من مقومات السيادة الوطنية؟ وكيف يمكن فهم الخروج المزعوم للوهابية المتحكمة ببلاد نجد والحجاز على الطاعة الأمريكية في حين أن جميع معطيات الواقع تؤكد أن المملكة الوهابية ليست أكثر من بيدق احتياطي على رقعة الشطرنج الأمريكية؟ الإجابة على هذه التساؤلات وما شابهها يتطلب قبل كل شيء الاستناد إلى مقدمات واضحة وثابتة، إذ من غير المعقول أن تكون واشنطن حريصة على إيجاد حل سلمي يجسد إرادة السوريين، وهي في الوقت ذاته المايسترو الذي يقود هذه الحرب شبه الكونية على سورية منذ أكثر من عامين ونصف، ومن غير المنطقي أن تكون الأسرة المالكة في السعودية مرتهنة بقرارها السياسي لواشنطن وتعلن تمردها على ما تلتزم به إدارة أوباما علناً، وهذا يعني وجود قطبة مخفية لا يمكن فهم الصورة الشمولية المقنعة لما يجري من دون فك خيوط تلك القطبة، فكيف يمكن فهم هذه التناقضات الصارخة التي تجد لها تجليات عملية على أرض الواقع؟ باختصار شديد وكنتيجة مسبقة ـ يأتي البرهان على صحتها لاحقاً ـ أقول: إن إدارة أوباما مستمرة في نفاقها الذي أصبح مفضوحاً، وهي التي أوعزت لبندر ولغيره من المسؤولين السعوديين للتظاهر بالغضب والخروج على الطاعة لأن أولئك ليسوا أكثر من أدوات تستخدمها واشنطن وفق ما يخدم مصالحها الذاتية، ولو أن إدارة أوباما جادة فعلاً بلجم الإرهاب الذي ينفث سمومه في الجسد السوري لما ماطلت وسوَّفت بتطبيق مضمون جنيف الأول، ولما قسمت الإرهاب الذي تدعي محاربته إلى إرهاب جيد وآخر سيء، وإن إشارة واضحة واحدة من البيت الأبيض أو من الخارجية الأمريكية تدعو بجدية لوقف ضخ السلاح والمسلحين إلى الداخل السوري كفيلةٌ بتسابق مسؤولي البلاط الملكي لابتلاع ألسنتهم وتغيير خطابهم الإعلامي وممارستهم العملية جملة وتفصيلاً، لكن هذا لا ينسجم واستراتيجية الدمار الشامل والفوضى التي تشكل أحد أهم روافع السياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، ويخطئ من يظن أن إدارة أوباما تتراجع عن تصعيد تعلنه إلا مرغمة، وواهمٌ من يحسب أن استبدال كلاب الصيد يزعج الكابوي الأمريكي أو يحرجه، والتاريخ الحديث حافلٌ بالدروس التي تؤكد تخلي واشنطن عن الحلفاء والأزلام والأدوات دفعة واحدة عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية، وأولئك الأزلام يعون ذلك جيداً، كما أن الأدوات التنفيذية المأجورة تدرك هذه الحقيقة، ولا تستطيع إسقاطها من حساباتها، وبالتالي فإن شق عصا الطاعة الأمريكية لا يمكن فهمه إلا في سياق توزيع الأدوار، أو أن مفاصل صنع القرار الأمريكي وصلت إلى قناعة تامة بأن الأُجَراء لديها قد استنفدوا كل الفرص الممنوحة وعجزوا عن تنفيذ المهام الموكلة مما يستدعي استبدالهم، ولكي يكون الاستبدال درساً قاسياً وتجربة حاضرة في أذهان بقية الأدوات والأزلام الجدد يتم الضغط على الفاشلين ودفعهم عنوة لإظهار التمرد وشق عصا الطاعة، واعتماد ذلك مقدمة ضرورية للقصاص منهم أمام بصر العالم أجمع لردع الصديق والعدو بآن معاً ومسارعة الجميع لتفادي الغضب الأمريكي، لكن الصمود الأسطوري لسورية شعباً وجيشاً وقيادة يُفْقِدُ هذا التكتيك الأمريكي الجديد القدرة على تحقيق أهدافه الشريرة، وتأتي الإنجازات اليومية لرجال الجيش العربي السوري لتضرب عرض الحائط بكل التخرصات الأمريكية التي أرادت فرض هزيمة استباقية على الشعب السوري فإذا بها تصطدم بسلسلة لا متناهية من الإخفاقات السياسية والدبلوماسية والعسكرية التي دفعت أوباما لصعود الشجرة العالية والاستنجاد بالروس لتقديم سلم النزول الآمن بعيداً عن البازارات الإعلامية التي لم تكن في يوم من الأيام ضمن لائحة اهتمامات السياسة السورية، فما يهم سورية هو وضع حدًّ ونهاية لهذا الإرهاب الذي يؤرق حياة السوريين، أما تصفية الحسابات بين واشنطن ومأجوريها فهذا أمرٌ آخر لا يغير من جوهر السياسة السورية الحريصة على تجسيد إرادة الشعب السوري عبر الحوار الوطني الذي لا يستثني أحداً، وفي الوقت ذاته الاستمرار بمكافحة الإرهاب وملاحقة ما تبقى من فلول العصابات الإرهابية المسلحة وتخليص الشعب السوري من جرائمهم التي يندى لها جبين الإنسانية. الأمر الآخر الذي يستحق التوقف عنده في هذا السياق هو التناقض والتخبط والارتباك في مواقف وتصريحات ما يسمونه معارضات خارجية، وخير دليل على ذلك اجتماع أعداء الشعب السوري مؤخراً في لندن والبيان الذي أصدروه، فتارة يدعون الحرص على الحل السلمي والتوجه إلى جنيف، وتارة يتحدثون عن دعم العصابات الإرهابية المسلحة بمزيد من الأسلحة الفتاكة، وحيناً يتحدثون عن حق الشعب السوري باختيار قيادته ورسم معالم حاضره ومستقبله بشكل مستقل، وأحياناً أخرى يتشدقون بشروط مسبقة يدركون سلفاً أنها غير قابلة للتطبيق لأنها تمس سيادة الدولة السورية وإرادة الشعب السوري، وهذان خطان أحمران تيقنت واشنطن أكثر من مرة بعقم المراهنة على المساس بهما. مما تقدم يتبين أن جنوح واشنطن وقبولها بالتوجه إلى جنيف2 لا يعني تخلَّيها عن عدوانيتها، ولا تسليمها بانتصار الدولة السورية، وإذا كان الثابت الوحيد في السياسة هو التغير الدائم بما ينسجم والمصالح فهذا يعني أن الاستعراضات البهلوانية للعثمانية الجديدة ومملكة أعراب الخيبة ليست أكثر من عروض هزلية غايتها منع الوصول إلى جنيف 2، وإبقاء سورية ميداناً لاستقطاب الإرهاب العالمي العابر لحدود الدول والقارات ، والعمل بشتى السبل لاستمرار سفك الدم السوري واستنزاف القدرات الشاملة للدولة السورية، وفي الوقت نفسه تجميع أكبر قدر ممكن من الإرهابيين الذين أصبحوا يشكلون تهديداً لأمن الدول الأوربية وبقية أصدقاء أمريكا وزجهم في الداخل السوري للقضاء عليهم وضمان عدم عودتهم إلى الدول التي قدمت لهم العون والمساعدة، ومنح واشنطن الوقت الإضافي اللازم لإعادة ترتيب أوراقها وفق الميزان الجديد للقوى على الساحة الدولية. قد يكون هناك تفسير آخر يقبله العقل للخروج من بيت الطاعة الأمريكي ، ويتلخص في قناعة المتمردين على البيت الأبيض بأن عصر الهيمنة الأمريكية قد أفلت شمسه، وبالتالي يتم التعامل مع الوكلاء والأدوات بمنطق «الولد العاق» الذي يسارع للحَجْرِ على والده كي يتمكن من التصرف بما تبقى من أملاكه، وهذا يعني تقوقع الدور الأمريكي وانكماشه بسرعة دراماتيكية قد يفقد معها الولد العاق إمكانية التمتع بثروة المحجور عليه، والقادم من الأيام كفيل بإثبات أي التفسيرين أقرب إلى الواقع. |
|