|
فضاءات ثقافية تموت اللغة بالهلاك الجماعي للناطقين بها كما حدث في العصور البدائية وفي بعض العصور الحديثة، وإذا كانت الحفريات قد تمكنت من العثور على جثتها المحشورة في الألواح أو في أدوات العيش فإن هذه الأشياء تنتقل إلى المتاحف لتبقى كشواهد قبور وفي أحسن الأحوال تصبح وثيقة لتسليط الأضواء على زمن الناطقين بها، وهذا الموت اللغوي فناء بيولوجي مواكب للفناء الجسدي للإنسان وقد يتخذ موت اللغة شكل الاحتضار البطيء وذلك عن طريق انحسار نفوذ أصحابها وتلاشيهم إما تلاشياً مطلقاً أو مسخاً يطول هويتهم، كما يحدث عادة عندما تتداخل اللغات المختلفة ويستعر الصراع ويسفر كل ذلك عن لغة منتصرة ولغة منهزمة تنسحب شيئاً فشيئاً من الألسنة مؤثرة الانعزال في دهاليز الصمت والانزواء كما لو كنا حيال حروب لغوية طاحنة. وقد أمدنا تاريخ الحضارات الإنسانية بأشكال كثيرة للغزوات اللغوية، وقد كان تفوق الأمم حضارياً باعثاً على قتل لغات وتوطين لغتهم في أماكن إقامات اللغات المقتولة. وربما يكون القتل جزئياً عن طريق اختراق اللغات المغيرة على مفردات بعينها لإزاحتها من السجل العام للغة وفرض مفردات بدلاً منها وهذه حالة لا تحدث عن طريق الإكراه وإنما هي حالة انتحارية لمفردات لا تقوى على حمل المعاني الكاسحة التي يفرضها منطق العصر أو تفرضها ضرورات الناس إليها، وقد اجتهد الناس عبر العصور في تغليف ألم الشعور بفقد تلك المفردات وأضفوا على حالات الموت الجزئي للغة أوصافاً تخفف من فداحة الخسارة وتعوض نفسياً عن جسامة المصاب. عبد السلام المسدي البيان عدد 475 - عبد الملك مرتاض: أين مجامعنا اللغوية؟ كيف يجوز للغة العربية التي أنشأت الجبر والمقابلة وأجريت بها العمليات الجراحية الدقيقة التي توجد أدواتها التي كان يستعملها الطبيب الجراحي خلف بن عباس الزهراوي معروضة في القلعة الحمراء بقرطبة، وهذا الطبيب مشهور بكتابه العجيب: كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، كيف تعجز هذه العربية إذاً عن استيعاب علوم العصر بعد أن تعلمت منها الأمم وقدمت الأرقام العربية (1-2-3) المستعملة اليوم في الغرب والتي نقلها أول مرة أحد المتعلمين الايطاليين في مدينة بجاية الجزائرية إلى مدينة فلورنسا، فأحدثت ثورة في الفكر الغربي بعد أن تخلص من ثقل الأرقام الرومانية التي يستحيل استعمالها في التطبيقات العلمية لبدائيتها وعجزها. إن لغة كالعبرية ظلت قروناً متطاولة قابعة في البيع لا تصلح إلا للصلوات، جاء إليها العلماء المعاصرون اليهود فأصلحوها وطوروها في بضع سنين فأمست لغة التدريس في أعقد الكليات العلمية وأدقها معرفة. وهذا أمر واقع لا ينكر، ثم يقول أبناء العربية عن لغتهم التي تعلم منها وبها الغرب والشرق: إنها لغة عاجزة عن أن تستوعب العلوم وأولى منها الفرنسية أو الإنكليزية. ولعل أول المسؤولين عن هذا الوضع المزري للعربية المجامع العربية مشرقيها ومغربيها، وهي المعاجم التي لا يفعل أعضاؤها شيئاً ينشأ عنه في الحياة فائدة للغتنا الجميلة إلا ما يكون من اجتماعاتهم الدورية العقيمة. إننا إذا لم ننظر إلى هذا الأمر بعين الجد والحكمة والشجاعة التاريخية فإننا نوشك أن نلقي بالعربية إلى الهاوية فتمسي مجرد لغة للصلوات وتأبين للأموات كما كانت العبرية طوال القرون السحيقة قبل أن تصبح فجأة لغة البحث العلمي في أعلى مستوياته في زمن قصير. عن الاتحاد الثقافي |
|