|
ثقافة قيود التقليد الكلاسيكي أمثال إلياس أبو شبكة وسعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف غصوب وبشارة الخوري وغيرهم وتطلعوا إلى فجر من التجدد الشعري وفد إليهم عن طريق المثاقفة مع الغرب والاحتكاك بنتاج شعراء الرومانسية الرمزية الفرنسية وأعلامهما كـ (فيكتور هيجو) و(لامارتين) و(بودلير) و(رامبو) وأضرابهم من رواد الحداثة الغربية في الشعر، وهكذا بدأت تتشكل من خلال معطيات هذه الكوكبة من شعراء لبنان في حقلي الشعر ونقد الشعر ملامح مذهب أدبي ابتداعي قائم على مبادئ رومانسية صافية تشوبها ظلال من الرمزية المعتدلة، وقد تأثر بهذا المذهب نفر من الشعراء السوريين المعاصرين لتلك المرحلة وعلى رأسهم الشاعروصفي قرنفلي. كان وصفي زعيم هذا التيار في الشعر السوري رومانسياً بطبعه وإحساسه وغربته الروحية الدائمة وكانت حياته في بدايتها ضرباً من الانعتاق والتمرد على الموروث الاجتماعي والأدبي فاشتركت هذه العوامل وغيرها في خلق شاعرتصدى لمحاربة الشعر السلفي المحافظ واستطاع بعد كفاح طويل متواصل ومعارك أدبية عنيفة شهدتها الصحافة السورية في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين شعراً ونثراً وآزره فيها أعلام اتجاهه كعبد السلام عيون السود وعبد الباسط الصوفي وسواهما من الشعراء والنقاد أن يرسي ما يشبه الأسس لاتجاه المدرسة الكلاسيكية الجديدة، أو مايتفرع عنها من تيارات وملامسات تتراوح مابين الرومانسية والرمزية والواقعية في الشعر العربي السوري الحديث، تلك المدرسة التي تخلصت إلى حد ما من اللهجة الخطابية التي سادت سابقاً وأصبحت تُغني آلام الذات الشاعرة وتعبر بإخلاص عن التجربة المعاشة وتعتمد في صياغتها على النغم الشعري الهامس، وتتأنق في اختيار ألفاظها الناعمة الهفهافة ذوات الجرس المهسهس والظلال الغناء الموحية، وتصب في القصيدة عواطفها المتأججة ولاتقيم للمقاييس الفنية الصلبة أو العقلية الاجتماعية السائدة الجامدة كبير اهتمام، وتمد جناحي موضوعاتها ومضامينها على داخل الشاعر فتخترقه وتستجلي أحلامه وهواجسه وهمومه ومشاعره وتنطلق إلى آفاق الخارج فتصور وقائعه وأحداثه وخاصة منها الوطنية والقومية والمصيرية. هاهو يرثي ذاته الرومانسية ومن خلالها ذات الإنسان المفجوع بإنسانيته المعذبة في قصيدته الملحمية النفس وعنوانها (سراب): عصف اليأس بالبقية من كأسي.. فأفرغت في التراب شرابي ونفضت المنى فأهوين أنقاضاً.. إلى النار ياسياط العذاب آه.. منكنّ.. آه.. أنتن دائي.. وجراحي وحيرتي واكتئابي وتنهدت مجهد بلغ الشط.. وأجهشت للضفاف الرطاب أيها اليأس أنت برء وعود.. مطمئن إلى مراح الشباب يالفقري حُرمت حتى من الدمع.. ومن رعشة الأسى في إهابي إن أعظم ماكان يفتخر به وصفي في حياته ويدل به أنه كان شاعراً.. ومتى؟! في زمن كان فيه وجود الشاعر الثائر في المجتمع حالة عصية خاصة وطقساً احتفالياً مشهوداً، ومما أعطى هذه الحياة الشعرية نبضاً غير عادي وزخماً حاراً أنها مرت في أربع مراحل لونية، إن صح هذا التعبير في مصطلح النقد الأدبي، نسمي المرحلة الأولى منها بالمرحلة الزرقاء، وكان الشاعر فيها شغوفاً بالرمزية في مطلع شبابه، ومتأثراً في ذلك بمعطيات رائدها اللبناني الشاعر أديب مظهر: ضباب وغموض وظلال وتهويمات، تتعانق في نسيج القصيدة ليبوح من داخلها وعبرها بوحاً شعرياً، مجسداً من خلال رؤاه كثافة في المعنى وكثافة في الشعوروكثافة في الموسيقا، تضع كلها قارئه في جو حلمي سحري، خيالي شفاف، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة الحمراء، وكان الشاعر فيها قد بدأ بشكل شخصيته الفنية المستقلة في أوج شبابه ويتبلور كشاعر رومانسي يندفع في قصيدته اندفاعاً جامحاً عارماً، تلتهب في سياقه ألفاظه وصوره وعواطفه وأفكاره التهاباً محسوساً لتعبر عن تمرد ذاتي منعتق ولهفة روحية صاخبة يرنو بهما لامتلاك العالم. وأما المرحلة الثالثة فهي المرحلة القرمزية وتتزامن مع بلوغه سن الرجولة والكمال والوعي الفكري والنضج الاجتماعي والسياسي واعتناقه للأفكار الشيوعية وتعاطفه مع المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي، وتعبيره عن قضايا المعذبين والمستغلين أفراداً وشعوباً، وهي مرحلة الواقعية الاشتراكية التي طغى فيها على أعماله الصراخ المباشر على الفن الشعري وتهاوى الشكل الأسلوبي لديه على حساب المضمون. وأما المرحلة الأخيرة فهي المرحلة السوداء وتتواقت زمنياً مع انحداره عن قمة جبل العمر إلى السفح. ثم إلى الحضيض في خضم شراسة مرض (الباركنسون أو العصبي الرعاش). وكان نتاجها الصمت والعقم الشعري، ويكتب وصفي في نهاية عام 1957 آخر قصيدة في حياته مشيراً إلى مرحلة الانسحاب، من عالم الشعر والانطواء على نبع الذكريات، ويضع لها عنوان: «طلائع النهاية». حسي، فهذا دمي قد جفّ واتأدت خطاي، وانطفأت في دربي الشهبُ ياذكريات اسكبي في الكأس مضطرماً كالنار من أمسنا يضحك بها الحببُ أرى النهاية خلف الدرب تومئ لي تخب نحوي، ومشيي نحوها خببُ خلاصة القول: إن وصفي أسس ملامح مدرسة شعرية في الشعر السوري الحديث لها زملاء وأصدقاء يستعيرون ريشته وألوانه وخياله ويقلدونه في معجمه الشعري الغني الشفاف وفي بعض موضوعاته الشعرية ذات المنزع النفسي- واستغراقاته الوجدانية المجنحة، وقراء معجبون ومريدون محبذون ينتظرون انتاجها على تشوق ولهف، ويدعمون خُطا الجدة والجرأة عند شعرائها المجلين. ومن هذه اللمحات الوامضة لهذا التيار أو المذهب الشعري نستطيع الزعم أن معطيات التجديد فيه انعكست في منطلقين: أولهما المضمون فقد اتسعت دائرته وتنوعت تناولاته واغتنى بكل مبتكر لصيق بالحياة والنفس، وثانيهما الشكل الأسلوبي أو البنية الفنية فقد استرسل الشعراء في طريقة المثنيات أو الثلاثيات أو الرباعيات المكررة بوزن واحد وقواف مختلفة أو ساروا على نظام البيت الشعري ذي القافية الواحدة، إضافة إلىحيوية لغتهم الشعرية المطواع التي نظموا بها وحرارتها والفان في أنماطها التعبيرية المستحدثة فابتعدوا عن الجفاف والبرودة والفوتوغرافية اللغوية، لكن أعظم إنجاز قدموه في جزء مهم من نتاجهم هو تطبيقهم لما يسمى بـ (الوحدة العضوية)organic unity في القصيدة (وصفي قرنفلي في قصيدته «كآبة»)، (عبد السلام عيون السود في قصيدته «متعب»)، (عبد الباسط الصوفي في قصيدته «ميلاد») ومثلوا الفترة السياسية التي صهرتهم في أحداثها خير تمثيل وتمكن بعضهم من التأثير في تيار الشعر بسورية عامة، وتابعهم على منوالهم الجيل اللاحق لهم من شعراء حمص المجددين بقصائدهم ذات المنزع الرؤيوي ومنهم غسان طه- نصر الدين فارس- عون الدرويش- عبد الكريم الناعم- مصطفى خضر- ممدوح السكاف- موريس قبق- وبعض من ذكرنا أسهم مع غيره من شعراء سورية في تأسيس «الحداثة الشعرية» في الشعر العربي السوري m.alskaf@msn.com < ">المعاصر. m.alskaf@msn.com < رثى نفسه بهذه الأبيات وأوصى بأن تكتب على ضريحه: لقد غدوت تراباً لايحركني بيت من الشعر أو زهر على غصن حسبي- ولا حسب خلف القبر- مُتكئي في حضنِ أمي وأني في ثرى وطني وأنني كنتُ- والأحرار تعرفني حراً أضأت دروب الشعر في زمني الشـــــــــاعر في ســـــــطور - ولد وقضى عمره في حي (الورشة) أحد أحياء حمص الشعبية القديمة. - تلقى تعليمه في الكلية الأرثوذكسية حتى أنهى الصف الحادي عشر. - بدأ نظم الشعر- وهو فتى - عام 1927. - انتسب إلى مدرسة المساحة عام 1928 وتخرج منها (طبوغرافياً) وعمل في مسح معظم أراضي سورية ولبنان حتى عام 1964 حين أقعده المرض. - أصدر عام 1954 مجموعة شعرية عنوانها (موعد وعهد) بالاشتراك مع الشاعر نصوح فاخوري. - سافر إلى مصر في سياحة ثقافية. - أصدرت له وزارة الثقافة ديواناً واحداً هو (وراء السراب) ضم بعض أشعاره وذلك عام 1969. - قلّده وزير الثقافة السوري وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1969. - عاش مع الشعب في نضاله الثوري ضد الاستعمار والاستبداد، ومع الطبيعة فأحبها واتحد بها ومع المرأة فوهبها ذاته وفنه. - أقام له اتحاد الكتاب العرب في القطر حفلاً تأبينياً ضخماً في صالة سينما الزهراء (الكندي حالياً) شارك في إحيائه حشد من كبار الشعراء والأدباءفي سورية ولبنان منهم نزارقباني وأنطون مقدسي. - أطلقت مديرية التربية اسمه على ثانوية للذكور في مدينة حمص. - عُقدت فصول نقدية وأبحاث معمقة حول شعره كتبها: جلال فاروق الشريف وعبد السلام عيون السود- ميشال سليمان- نجاح العطار- وليد مشوح وعبد الكريم الناعم وممدوح السكاف وسواهم. - ضمنت وزارة التربية كتاب (الأدبي العربي الحديث) المقرر على طلبة الصف الثالث الثانوي منذ العام الدراسي 1977- 1998 وحتى الوقت الحالي أبياتاً من قصيدته (تحت الرماد) للدراسة والتحليل. - توفي في 12/12/1972 وكان له من العمر واحد وستون عاماً وظل عزباً طوال حياته. |
|