تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حكـمة سـقراط

رسم بالكلمات
الاثنين 9-1-2012
مالك عجيب  

بعد أن هدأت عاصفة الضحك التي أثارها منظر سحّاب بنطالي المفتوح عند دخولي المكتب صباحاً، واستنفد الزملاء تعليقاتهم المألوفة في مثل هذا المقام، انزويت وراء مكتبي مستعجلا ً الانفراد إلى نفسي للتمعن في تلك الذكرى القديمة التي أيقظها موقف اليوم من رقاد النسيان.

حدث ذلك أثناء امتحان الشهادة الإعدادية، حين اكتشفت لدى عودتي للمنزل بعد امتحان مادة العلوم أنني كنت ومنذ لحظة خروجي من المنزل (أسرح) بسحاب مفتوح على مصراعيه.‏

كانت صدمة بكل معنى الكلمة، أذكر تماماً كيف رحت أعتصر ذاكرتي يومها محاولا ًاستحضار أي أثر للمشهد المخجل في عيون من صادفتهم ذاك اليوم، وما أكثرهم.‏

لم يستغرق الأمر أكثر من لحظات حتى انتهيت إلى الفاجعة الكبرى، تذكرتُ فجأة تلك النظرة الغريبة في عيني فتاة - لا أعرفها – كنت قد صادفتها عند موقف الباص، رباه .. هو ذاك إذاً، لقد لاحظتْ، بم فكرتْ لحظتها؟ ماذا دار بخلدها؟ وراحت مخيلتي الخصبة تعبث بذكرى تفاصيل اللقاء العابر الذي لم يستغرق أكثر من ثوان، حتى أودت بي- كعادتها - إلى الأسوأ، فحمّلت تلك النظرة الخاطفة كل ما ابتدعته من وساوس وشكوك وأوهام. استبدّ بي الخجل والحرج وتقوقعت في المنزل أسيرَ حالة نفسية مزرية كادت تطيح بمحصلة عام كامل من الدراسة والتحضير.‏

اليوم.. ورغم إدراكي لمدى التغيير الذي يمكن أن تحدثه عشرون عاماً من الصقل والترويض في مختلف جوانب شخصية الإنسان، لا أملك إلا أن أقف مذهولا ًمن حدة التباين في نظرتي إلى حادثتين متشابهتين إلى حد التطابق، أهذا ما يدعونه الخبرة أم الوعي أم ماذا؟ ذاك الذي يجعل ما كان يمثل كارثة ً بالأمس يبدو اليوم أقرب إلى نكتة طريفة أتقبّل تندّر الزملاء بها بصدر رحب، ولا تستحق التوقف لأكثر من دقائق؟‏

لعل شيئاً مما كان يجول بخاطري قد طفح على معالم وجهي فاسترعى انتباه الأستاذ أيمن، الذي كنا نلقبه بفيلسوف المؤسسة نظراً لسعة اطلاعه ولغرابة أفكاره، ونكنّيه بأبي ناجي تحبباً لكونه قد جاوز منتصف العقد الرابع وما زال عازباً بعد تجربة زواج مبكر لم يستمر لأكثر من أشهر معدودة لأسباب مجهولة غير بعيدة عن فلسفته.‏

جرّ كرسيه نحوي ولكزني بكوعه قاطعاً علي تداعي أفكاري قائلاً: يا فتاح يا عليم.. أمِن الصباح همّ وغمّ ؟ ما بك يا رجل؟‏

كنت بحاجة لمن أبثه شيئاً مما يشغلني، وكان أبو ناجي الشخص الأنسب لبوحٍ كهذا، فرحت أشرح له قضيتي حتى انتهيت بإبداء تعجبي من مدى اختلاف مفاهيم الإنسان بتقدم العمر، وخاتماً أطروحتي بالتعبير عن امتناني العميق للنضج الذي وقاني شرّ تكرار مأساتي. لبث الرجل صامتاً لبرهة ثم رمقني بنظرة طويلة أثارت ريبتي وسألني بجدية بالغة لا تناسب طريقة طرحي: ولماذا اخترتني دوناً عن الآخرين لتحدثني بحديث كهذا؟‏

باغتني سؤاله الغريب فأجبته ببساطة وتودد: لأنك الوحيد الذي سألني عما بي، أولاً، ولأنك أبا ناجي ثانياً..‏

بدا أنه اطمأن لجوابي, ولكنه عاد للصمت ثانية متشاغلا ً بترتيب مجموعة أوراق، وضعها بعد قليل على الطاولة ثم أشعل سيجارة, واتجه بكليته إلي وقد عادت لعينيه نظرتهما المألوفة وقال بشيء من المزاح: لا يمكنك يا بني أن تستخلص العبرة من قصة غير مكتملة، لقصتك بقية.. لديك فصلان منها فقط وينقصها فصلها الأخير.. إنه لدي.‏

وقبل أن أبدي عدم فهمي لما يعنيه، تابع موضحاً بجدية أكثر:‏

لقد تعرضتُ يوماً لموقف مشابه أراه يليق جداً بأن يكون الفصل الثالث لقصتك، اسمع .. منذ خمس سنوات تقريباً وكما حدث معك اليوم تماماً.. دخلت المكتب صباحاً لينبري أحد الزملاء خفيفي الظل منبهاً البقية إلى سحابي المفتوح وكأنه قد اكتشف قارة أميركا، لا أريد - كما لا أحبذ - الإسهاب في الحديث عن شعوري لحظتها، ما يعنيني أكثر هو ذلك الجزء المتعلق بالنظرة التي رأيتها - أو تخيلتها - في عيني فتاتك، وردّة فعلك إزاءها، ما أريد قوله هو أنني أدرك تماماً وبالتجربة معنى كل كلمة قلتها.. لم تكن ثمة موظفة بيننا، ورغم ذلك فقد تقاذفتني الوساوس والأوهام مثلك، حتى غدوت عاجزاً عن رؤية العالم إلا من خلال سحابي المفتوح، لم أعد بقادر على مواجهة أي ممن حضروا الواقعة, ففررت لا ألوي على شيء، كما فعلت أنت، طلبت نقلي على الفور ولهذا السبب أنا اليوم هنا.‏

كنت قد جاوزت الأربعين حينها، وبالنظر إلى الفارق العمري بيننا، فهذا يجعلني أفترض اعتبار ما حدث لي بمثابة فصل ثالث لقصتك، لا غنى عنه في استخلاص العبرة، فإذا كان الموضوع يتعلق بالنضج المكتسب بتقدم العمر فهلا أخبرتني ما الذي جعل ابن الأربعين يفتقد النضج الذي تزهو بامتلاكه اليوم؟ لماذا تنظر إلى لامبالاتك اليوم كإنجاز ولا تكلف نفسك عناء التفكير بما يمكن أن تكون قد فقدته بالمقابل؟ أظن أن الموضوع متعلق بأمر آخر مختلف تماماً، إن تشابه ردتي فعلنا ( العصابيتين) في الفصلين الأول والثالث- إن جاز التعبير– يجعل منهما القاعدة - بأكثرية الثلثين-  فتصبح ردة فعلك (الناضجة) اليوم هي الاستثناء الذي عليك أن تبحث عن أسبابه يا.. أبا وليد ( الله يسلملك وليد ).‏

حقيقة ً.. كانت تلك هي المرة الأولى التي أعي فيها بعضاً من فلسفة أبي ناجي.. الموضوعية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية