تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أغوته غزالة..

رسم بالكلمات
الاثنين 9-1-2012
د. نصر مشعل

لم يصدِّق الأمير(غيهب بن نمير الكناني) ما رأت عيناه.. أجمل ظبية سيصطادها اليوم.. لا..لا.. لن يصطادها.. بل سيمسك بها حيَّة.. فلو أراد قتلها، لأطلق عليها سهماً واحداً أرداها قتيلة..

ولكن هذه الظبية.. سحرَته.. فتنَته، بل شعر أنه يعيش قصَّة سحر حقيقية!!‏

قفزت واختفت في دغلة قريبة، فلحق بها، وقفز بحصانه داخل الدغلة، وبغتة وجد نفسه أمام حظيرة بيت ريفي بسيط، ورأى ما أذهله حينها.. رأى فتاة تقفز فوق مزبلة عالية.. وقف يتأملُّها.. صعدت إلى أعلى المزبلة، ثم رمت بنفسها، وتدحرجت، وهي تصدح بضحكة (أجمل من عندلة الطيور) كما قال لأعوانه لاحقاً.. حين وصلت إلى الأرض وتدحرجت صوبه، سقطت عند قوائم حصانه، وحينها.. حينها رفعت رأسها ورمشته بغرابة، فوجد نفسه يشهق لجمالها: ( يا ألله.. إنها تمتلك عيني الظبية نفسها!! وتقفز برشاقتها!) ابتسم لها، إلاّ أنها رمقته بحذر.. وقبل أن تغادر سألها: (ما اسمك أيتها الحسناء؟!) فأجابته بصوت أبحٍّ ناعس، أجَّج هيامه بها:(اسمي ظبية!!)‏

***‏

 بعد سبعة أيام، زُفَّ الخبر السعيد، فالأمير (غيهب) سيتزوَّج اليوم من حسناء الغابة (ظبية) ووجدت ظبية نفسها داخل عربة الأمير الجميلة المكلَّلة بالورود.. والمفروشة بالحرير والديباج، ترتدي ثوب عروس يليق بالأميرات، وإلى جانبها الأمير غيهب، الذي تتمنَّاه وتحلم به أيَّة فتاة، وعلى جانبي الموكب، اصطفَّ المحتفلون، وانطلقت الدفوف والموسيقا تعزف أفراح العرس، وفيما علائم الفرح تغمر الوجوه، كانت الأميرة الجديدة ظبية تبكي بصمت.. فأمسك الأمير بأصابعها الناعمة، وقبَّلها، وقال لها: (لا بأس.. يمكنك أن تبكي حبيبتي.. فهذه دموع الفرح.. كم تمنَّيتُ أن أرى أجمل عينين تبكيان دموع الفرح.. ابكي.. يا حبيبتي.. ابكي)‏

وكلما اقترب الموكب إلى القصر، أجهشت الأميرة الصغيرة بالبكاء، فيضمُّها الأمير بسرور، ثم يمسح عن خديها دموع الفرح.. وما إن نزلت من العربة، وولجت بوَّابة القصر، حتى هطلت عليها الزهور والعطور.. وتمايلت الراقصات أمامها.. وارتفعت الأغاني والموسيقا، وفيما يتأبَّطها الأمير، وهو يبتسم، كانت هي تغرق بالبكاء، فيضغط على أصابعها، ثم يشيِّع الحاضرين، بملامح راضية، وكأنه يقول لهم: (هذه دموع السعادة.. انظروا إليها وهي تبكي من السعادة.. آه.. ما أجملها!!)‏

حين رأت الموائد المصفوفة، التي تحمل كلَّ ما لذَّ وطاب.. فيما الشموع الملوَّنة تضيء حنايا القصر، سقطت في نوبة بكاء ونشيج وشهيق، حتى جعلت الأمير يبكي مثلها، فشاركهما الحاضرون جميعهم بكاء المسرّات، ودموع الفرح.. وجمال الحياة القادمة، ووداع حياة المزبلة، والغابة وشقاوتها، واستقبال حياة الأميرات.‏

***‏

    مرّت الأيام.. وكلَّما دخل عليها الأمير، وجدها تقف بالقرب من نافذة القصر، تحدِّق إلى المدى بنظرة حزينة، وحين كان يسألها عما يؤلمها؟ كانت تقول له بصوت ضعيف: ((لا شيء.. لا شيء..))‏

عمل لأجلها المستحيل كي يجعلها سعيدة، إلا أنه كلَّما دخل عليها، رآها كئيبة تتأملُّ من النافذة إلى نقطة بعيدة.. تعانق المدى.. فغضب منها ذات يوم، وسألها عمَّا يحزنها، فقالت له، وهي تبكي: (اشتقت لأيام المزبلة!) فعانقها الأمير بعين تترقرق بالدموع، وقال لها: (أحقاً.. هذا ما يؤلمك؟!) عانقته، وهي تشير برأسها إلى الأسفل، فترقرقت دموعها على عنقه.‏

استدعى على الفور حرَّاسه وخدّامه، وأمرهم بصنع مزبلة، من أجمل مزابل التاريخ، وفي اليوم التالي أخذها من يدها ليريها المزبلة الملكية.. كانت تلالاً من التراب النظيف، وقد فُرِشت بالحرير والديباج من أعلاها إلى أسفلها، ورُشَّت بالمسك والعنبر.. وما إن رأتها الأميرة ظبية حتى هلَّلت بشائرها، وصاحت من الفرحة، ثم اعتلتها، وراحت تقفز عليها، وتنطُّ، وتتدحرج.. وسمع الأمير حينها تلك الضحكة التي سمعها أول مرَّة رآها فيها, فطفرت من عينيه دموع الفرح، وبقيت الأميرة تلعب من الصباح حتى المساء, حتى تعبت.. وعند حلول الليل حملوها، وهي نائمة، من شدَّة التعب، واستلقى الأمير إلى جانبها، ورأى تلك الابتسامة النديَّة على شفتيها, فنام إلى جانبها باطمئنان ورضا.. وأطلق على ذلك اليوم.. يوم المزبلة السعيد.‏

***‏

دخل عليها بعد أيام.. وجدها (ضاربة بوز) وهي تنظر من نافذة القصر، بملامح كئيبة حزينة, فسألها: ما بك حبيبتي.. ما الذي يحزنك؟!‏

فصرخت بوجهه: لم أر معك يوماً أبيض..‏

حينها.. تأمَّلها الأمير بملامح معاتِبة، ومتألِّمة، وسألها بصوت كسير حزين: ( ولا حتى يوم المزبلة؟!!)‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية