|
اقتصاد الأسرة لذلك كانت شديدة الحرص على انجاز وتوضيب كل شيء في محله الصحيح كما يقال, فمازلت أتذكر ذلك الصندوق الخشبي الجميل المرصع مع جهاز عرس أمي وهو كان الأغلى والأهم في تلك الأيام الغابرة. ولشدة هوس أمي بالتنظيم والتنسيق اعتمدت أصنافاً مختلفة من أواني القش( الجميم) لوضع الغلة من المحصول من أصغرقيمة( الفرنك إلى أم الطربوش) إضافة إلى كل حاجات المنترل الخفيفة والثمينة( من لباس وغيره). وعندما كان يأتي والدي مساء كل يوم من عمله في طاحون القرية ( جليس طاحون) ويرتاح ويتناول طعامه.. يفتح جزدانه الجلدي ذا اللون الأسود وينفض عنه غبار الطحين لتبدأ المحاورة الظريفة بينهما.. يقول أبي غلتنا ياجميلة وهو اسم أمي لهذا اليوم كذا وكذا فيجري توزيعه حسب مستحقيه, وكون الطاحون كان لها شركاء آخرون, أول ماكان يفعله أبي هو إعطاء حصص الشركاء ويقول لها هذه حصة فلان وفلان.. وتلك حصة مصروف البيت وهذا المبلغ من مصروفنا اتركيه على جنب للحاجة فربما يعتازه جار أو صديق أو قريب نظراً لحالة الفقر السائدة واقتدار أبي نوعاً ما. نعم كان أبي قوياً وكريماً ومناصراً للحق فكان يحسب حساباً لأي طارىء قد يحصل. كان يقول ويردّد دائماً خلال توجيهاته ( لست البيت) عليك دائماً أن تحسبي حساباً لعابر السبيل بأن تزيدي حجم الطبخة وتضيفي سكبة طعام لصاحب النصيب هذا ماكان يحصل في غالب الأحيان ويأتي ضيف الدار. أمي طبعاً لاتجيد القراءة والكتابة على الورق ولكنها تجيد الحساب الشفهي والحفظ الذهني فهي لا يصعب عليها دون مبالغة جمع أوحساب أي مبلغ من المال كبر أم صغر وهي تتذكر كل مايروى ويقال أمامها من حوادث وروايات ووقائع. وبما أن رب المنزل كان منشغلاً بعمله بالطاحون والأرض فهي كانت المعنية أكثر بحياتنا ومرضنا ودراستنا.. الخ. واللافت أن السيدة جميلة كانت تساعد زوجها بزيادة المصروف وانفاقه حيث كانت تربي الدجاج لتستفيد من بيضه حين تبيعه لجارنا الدكنجي أبو محمد وبثمنه تشتري حاجات المنزل من منظفات وخضراوات وأشياء أخرى. نعم إن كثيراً من أمهاتنا وجداتنا كن يتفنن بأساليب التوفير في مواسم الصيف من أجل الشتاء القاسي نظراً للحاجة والفقر, فكم سهرن الليل في تطويل وتقصير الثياب من الولد الأكبر إلى الأصغر وهكذا إلى أن أصبح الشباب شباباً والصبايا صبايا وبدأ التبذير والاسراف وحسرة أيام زمان. قالت لي والدتي ذات يوم ليس ببعيد( قديش بتقبضي بالشهر) يا ابنتي? قلت لماذا هذا السؤال الذي تأخرتي فيه كثيراً ولم تتدخلي يوماً بهذا الشأن..?! لا لشيء للمعرفة فقط.. أجبتها بأن راتبي عشرة آلاف ليرة سورية.. فقالت متنهدة بعمق.. منذ أن توظفتي حتى الآن كم معك من الألوف? قلت لا أملك إلا الراتب الذي أصرفه كل شهر والحمد لله. بالطبع لم يعجبها هذا الكلام لأنها تدرك غدرات الزمان وعاشت بعضا منها فنصحتني بقولها: ياعين أمك رحم الله المثل القائل خبىء قرشك الأبيض ليومك الأسود, لأن الحاجة والعوز صعبان جداً على المرء( عند الحزة واللزة) لاتبخلي على نفسك بشيء واصرفي مالك كما تريدين وترغبين لكن تدبري أمرك وأحسنيه لأي طارىء لايسر البال والخاطر.. وبعد أن قرأت عنوان هذ الصفحة الذي أغراني جداً للكتابة وإن كنت لا أدري أن هذه المادة تصلح لهذا المكان أم لا. تعهدت لنفسي بأن أدخر قليلاً كل شهر تحسباً لأية حالة ندم. عمر والدتي اليوم تجاوز السبعبين عاماً وهي لاتزال تحسب الأيام والشهور بدقة بحسب التقويم الهجري والميلادي وتحب الأخبار والسياسة والحوارات الساخنة كثيراً وتحتفظ في ذاكرتها بأسماء لكبار الشخصيات في العالم من رؤساء ووزراء خارجية والممثلين الأوائل للدراما العربية والسورية, وقد خسرت معها كثيراً من الشروط التي كنا نتراهن عليها وكانت تفوز عليّ دائماً. |
|