تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ضلالية الموقف المسبق

ثقافة
الثلاثاء 9-2-2010م
عبد الكريم الناعم

لقد اخترت مفردة (ضلالية) المأخوذة من ضلال، بقصدية، فـ (ضل) ضد (اهتدى) وهذا ينطبق على الدين كما ينطبق على غيره ولا يغير من هذه الحقيقة أن مفردتي (الضلال) و(الهدى)

قد استحوذت عليهما بشكل كبير المساحة الدينية ورغم هذه الصبغة فما أظن أن ثمة ما يمنع من استخدامهما في مقامات أخرى حين يكون الاستخدام صحيحاً، وحين تفيان بالغرض أكثر من غيرهما ولا سيما أن بعض المساحات التي قد تدخل في النقاش وتستعمل فيها هاتان المفردتان، قد أدخلها البعض بتطرفه وبفقدان حسن التصرف في فضاءات (التعصب) الذي يذكر بتشنجات الزاعمين أنهم وحدهم أهل الحقيقة، أو أنهم هم الناجون، وما عداهم فإلى هلاك وبئس المصير وهذا ما نراه في المحصلة في كل موقف يزعم أنه وحده الصواب،‏

لقد اخترت (الضلالية) لتشير إلى اتجاهين فيها، فهي (ضالة) (مضلة)، فهي (ضالة) بطبيعتها، (مضلة) لمن يسلك طريقها، لعله مما يحمل إشارة جديرة بالانتباه هنا أن في (الضلال) شيئاً من (الفتنة) وأنا هنا أومئ من بعيد إلى معنى الفتنة المتداول في وصف ما هو إبداعي وجميل، كما لا يخلو من الإشارة إلى تلك التعالقات بين تلك المعاني بدلالاتها الخاصة والعامة، ففي قواميس اللغة:‏

فتن فلاناً: أضله،‏

فتن الصائغ الذهب فتنة: أذابه بالبوتقة ليبين الجيد من الرديء وذلك هو ما يقوم به الناقد الحصيف الذي يلزم نفسه بأن يكون نزيهاً في إصدار تقييماته، بعيداً عن كل ضلال أو تضليل، وبعيداً عن الأمزجة العكرة وعما لايليق بنصاعة الوجدان،‏

ومن معاني (الفتن): الفن، والنوع،‏

ومن معاني الفتنة: الخبرة، والعبرة، واختلاف الناس في الآراء،‏

ذكرنا هذه المعاني لما فيها من إشارات ودلالات وظلال تغني هدف الكتابة، وتعمقه، وتضيء بعض الجوانب التي حجبها غبار السائد والمتداول والمساحة المنشودة التي نتوجه إليها أشبه بقطعة من الحجر الكريم تراكم عليها غبار الإهمال، فهي بحاجة لإزالة تلك الأوضار لتزهو بإشعاعها، وبما فيها من جمال،‏

قد يقذف هذا العقل المشاكس في بنيته أسئلة مزعجة ومقلقة بيد أنها تظل من ثمار بستان التفكر، أو التفكير، أو التساؤل المشروع، ومن هذه الأسئلة، في هذا السياق: هل الضلال ابن الموقف المسبق، أم الموقف المسبق هو ابن الضلال؟‏

كي لا نضرب بعيداً في شعاب تساؤل، قد يبدو عقيماً في واحدة على الأقل من زوايا حضوره نستطيع القول: إن كليهما سبب ونتيجة في النهاية، ولن أذهب بعيداً في التعليل لأنه يخرج المادة عن هدفها الأساس، ويذهب بها إلى فضاءات الفذلكة، أو التفلسف، وليس هذا مجال شغلي بل الغرض الأساس الدخول إلى العوالم المتعلقة بالنقد، النقد الذي لا يمكن النظر إليه معزولاً عن نبض الحياة بتجلياتها العملية والفكرية وعبر علاقتي الظاهر والباطن في كل شيء،‏

النقطة المركز التي أحرص على الانطلاق منها هي أن الموقف المسبق من أي مسألة في الحياة سيودي بصاحبه إلى الضلال، وهذا ينطبق على المساحات الأيديولوجية التعصبية كلها، دون استثناء وإذا لم يكن في المواقف المسبقة من سلبية سوى إلغاء الحوار والآخر لكفى بذلك مصادرة وقمعاً وانحداراً نحو ظلمات لا نهاية لسوادها المتراكم، وذلك (ظلم)، والظلم ظلمات كما جاء في الأثر، ولنتذكر أن رب العزة، في قصة السجود لآدم لم يمنع إبليس من أن يدلي برأيه، وهو يعلم، بداهة، أنه على ضلال، وهنا لكي يكون التوجه عالي القصد، ونقيه لا بد أن يكون الوجدان على درجة رفيعة من النقاء وحسن التوجه تبلغ حد أنه سيتبنى الرأي الذي يرى فيه الصواب أكثر لا أن يكون استماعه أشبه بالخدعة فهو يستمع لتحقيق فعل الاستماع، كإجراء شكلي لا غير،‏

الموقف المسبق الذي هو ابن التشنج والزعم غير الصحيح يقفل الأبواب ويحظر علينا أن نتساءل أو أن نبدي آراءنا، أو أن ندعو إلى التحاور،‏

متعصب لقصيدة النثر يرفض أن يقرأ قصيدة تختار شكل العمود، فهو ضد هذا الشكل وهذه الشكلانية المفجعة تجعله ابن الشكل والملمح الخارجي دون أي قدرة على تأمل النص، وقراءته، واكتشاف جمالياته حين تتوفر ويمنع عنه التمتع بما فيه من جمال، حين يتحقق، ويقطع عليه طريق السفر في أمداء دلالاته التي تشع باتجاه العقل والروح حين تتجلى؟ فكم من الخسارات نواجه وكم من الدمار والظلم ننشر؟! ومثل هذا الحكم يطلق على من ينحاز للشعر الإيقاعي بوزنه القومي، هذا التعصب نجده في كل الأنماط، لدى عدد ممن يتحركون في فضاءات الكتابة الشعرية، وأنا هنا لا أتكلم عن تخمين، أو ظن، بل أتكلم عن معرفة واثقة فثمة من يرفض أن يقرأ قصيدة نثر وتلك مشكلة أخلاقية بقدر ماهي منزلق فكري جمالي، لأن قراءة أي نص، تشبه إلى حد كبير أن تصعد إلى منصة قضاء رفيعة، وأن تحمل وجداناً ناصع النقاء، وأن تتطهر من كل المؤثرات السلبية المحيطة بك، وبالقضية، وأن تغتسل من الداخل بمياه الكشف عن (الحق)، و(الجمال)، وأن ترى أن أول واجباتك أن تنصف هذا الماثل أمامك، أوالغائب عن عينيك، الحاضر في الوجدان، في وقت قد يكون هذا الماثل للمحاكمة بين يديك هو (جار) لك، وربما لأسباب حياتية كثيرة، كانت علاقتكما ليست على مايرام، وأنا هنا أتكلم عن الشروط الوجدانية الأخلاقية، لأنها أساس في الوصول إلى واحدة من تلك القيم في (التقييم) فإذا تحقق الحضور الوجداني صلحت كل الأقوال الصادرة المدونة لأن الاختلاف آنذاك يكون في زاوية النظر في وجهتها المستندة إلى رؤية فلسفية، فحضور الوجدان وجدان القاضي النزيه، يعدل الكثير من حموضات العسف الفلسفي، أو البطش الأيديولوجي.‏

al naem@gawab.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية