|
الثلاثاء 9-2-2010م مطلع شتاء 1965 والعالم من حولنا يغلي.. لا شيء يوحي بالاستمرار ولا بالاستقرار والدنيا شائعات.. أنا وهواجسي وأحلامي في اليقظة حتى ضبطت أكثر من مرة.. أتحدث.. أخطب.. أضحك.. لوحدي.. هل اقتربت من الجنون؟! كنت قابلاً أن أفعل أي شيء.. كل شيء.. إلا الغرق في دراستي.. كان ذلك صعباً جداً.. وظلال شعور بالانكسار يهدهد وحدتي بين فترة وأخرى.. كل زملائي اتجهوا حيث قدّر لهم.. هذا في جامعة وآخر في معهد.. هذا سافر.. وهذا إلى الكلية الحربية وهكذا.. هو عام حاسم يفصل بين حياة المدرسة والجامعة لكنه مرصود للعزلة. نبرات التحدي كانت تردني دون حساب.. مرة لتنبهني كي أشدّ من وقع الخطا ومرة كي تشمت بي، كان أقساها أنّ أم قصي قالت لي: انتظر سيسبقك قصي، كنت بجد أحبه وأتمنى له كل الخير.. لكنني خفت هذه النبوءة.. وأنا أعلم كم أدّخر من هواجس تعوم على بحر من الكسل.. قد يسبقني.. من يدري..؟! لكن.. في ساعة ضجر.. في يوم أشرقت شمسه على جليد المسطحات وزوايا الأرصفة.. دخلت الجامعة لأول مرة في حياتي.. كنت خائفاً متوجساً فأنا لست بجامعي.. وعلى الباب أمام كشك صغير لوحة صغيرة كُتب عليها: إن دخول الحرم حكر على الطلاب.. وأمام وجهي ظهرت «آرمة» فوق باب عتيق لمبنى قديم كُتب عليها كلية الحقوق. تذكرت ناديا رفيقة السفر.. لكن.. هي لن تداوم.. أخبرتني بذلك ولن أجدها.. المهم أنني عبرت الباب وفي يدي «الثورة» تفتلت حول الحديقة الصغيرة أمام مبنى الحقوق ثم صعدت بضع درجات لأصل إلى المقصف الذي امتلأ بالدخان وقرقعة الكاسات والطلبة.. وقبل أن يصيبني الوجل رأيت يداً ترتفع لي.. أومأ يدعوني إلى طاولة لأكون رابعهم. كان أحمد.. وعلى الفور سألني: < ماذا سجلت؟! - أعيد البكالوريا. < أحسن. - شو أحسن.. < أحسن ما تصير ضابط.. - لماذا .. ما به الضابط؟! < أخاف أن تسعى إلى انقلاب.. كانت فترة حرجة.. الشائعات تملأ الشارع «قاموا فلان وحطوا فلان» ومعيار التقييم الأول هو القوة.. ومعيار القوة كم ضابطاً مستعداً لتنفيذ الأوامر؟! أخذ الجريدة من يدي وقال: ما هذه؟! «الثورة» خلف القصر العدلي.. أتذكر رسائلك إلى هذا العنوان.. ما هذه «الثورة»؟. - جريدة أقرؤها. < كيف تستطيع أن تقرأها «وأخذ يتصفح صفحتها الأولى». - لم لا؟! < وإذا وجدت لك غلطة في صفحتها الأولى بالعنوان العريض.. وضحك ومعه زميلاه.. أحسست بالتحدي.. وشعرت باستصغار شأني.. كان مانشيت الثورة بالأحمر في عدد 4 كانون الأول 1965 يقول: «فيصل يرد على المؤتمرين بحرض» تابع أحمد: < انظر كيف كتبوا بحرص.. أضافوا نقطة.. بسيطة!! أعاد لي الصحيفة وقال: - أرأيت لماذا لا أقرؤها؟.. سعد الثلاثة لأنهم لا يقرؤون الثورة.. وانكسرت أنا لأني من قرائها.. ولكني لأول وهلة خسرت الجولة.. ثم وأنا أقول لروحي: كل الناس تغلط.. ماذا لو كانت غلطة في الجريدة. رأيت كلمة «حرض» تتكرر.. قرأت الخبر.. كنت اشتريت الجريدة من باب الجامعة ولم أقرأها بعد.. كان الخبر يدور حول مؤتمر لليمنيين المتصارعين بين الجمهوريين وجماعة الإمام البدر أقيم في مدينة يمنية اسمها «حرض».. هكذا أتذكر.. وما لا أنساه شعوري بفرحة الثأر من أحمد وردّ الاعتبار لي.. سألته: - لم تقل لي في أي فرع سجلت؟ «وكنت أعلم» < جغرافيا.. - أحسنت الاختيار.. < لماذا؟! - أولاً هذه فرصتك لتكون أستاذ جغرافيا بقرية ما، وتتزوج صبية من ضيعتكم وتعيشون .. وتقضي كل الصيف في الراحة. < وثانياً.؟! - كي تتعلم جغرافيا وتعرف أن في اليمن مدينة اسمها «حرض».. وبالتالي تقرأ جريدتي بشكل صحيح.. < جريدتك؟! - نعم.. وجم الجميع.. وسكتُّ أنا.. ولم أنتظر الشاي التي وعدت بها بل خرجت والصحيفة بيدي.. بصراحة بيني وبين نفسي أنا اعتذرت للجريدة.. أنا أيضاً يجب ألا أشك بها.. يجب أن أتأكد.. ولو أنني وجدت في مرات سابقة العديد من الأخطاء.. لكنني لم استسلم لخطأ من النظرة الأولى.. ولم أروّج لخطأ لم أتأكد منه.. متشدقاً بأنني لا أقرأ الجريدة. وما زلت حتى اليوم أسأل ولا أجد جواباً: كيف يقيّم جريدة من لا يقرؤها .. ذاك اليوم أحسست برغبة للقاء ناديا..مررت من الحقوق علّي أراها بالصدفة.. أشعرها لسبب ما من قراء الثورة.. لكن.. |
|