تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الاستهلاك العشوائي للمعلومات

ملحق ثقافي
9/2/2010
ترجمة:د.علي محمد سليمان:تكرست خلال العقدين الماضيين مصطلحات عديدة في مجال الإعلام والثقافة وعلوم الاجتماع،

وكلها مصطلحات تحولت إلى تعبيرات تشبه الأيقونات في قدرتها ونزوعها نحواختزال العصر الذي نعيشه وتمثيله من خلال سمات مطلقة وثابتة. ومن أهم تلك المصطلحات أوالتعبيرات ما نستخدمه يومياً للدلالة على واقع الحياة المعاصرة مثل «عصر المعلومات»، «ثقافة الوسائط المتعددة»، «عصر الإعلام المفتوح» و»عصر الإنترنت « وغيرها من المصطلحات التي تدور كلها في فضاء توصيف ظاهرة واحدة هي سيطرة أدوات نقل وتوزيع المعلومات على مختلف نواحي النشاط البشري.‏

وإذا كانت تلك التعبيرات توصيفاً لواقع، فإنها من ناحية دلالية أدت إلى المساهمة في تكريس وهم مفاده أن الزيادة الكبيرة والتعدد في مصادر المعلومات وطرق نقلها وتوزيعها يؤدي بالضرورة إلى زيادة موازية في المعرفة. وفي السنوات الأخيرة بدأت بعض الجهود العلمية والفكرية تنظر بتشكك إلى تلك الفرضية التي تحولت إلى ما يشبه المسلمات في المخيلة العامة. وانطلقت الدراسات الجديدة لظاهرة الكثافة والتعددية المعلوماتية من ملاحظة آليات الدماغ البشري في تلقي المعلومات واستهلاكها وتخزينها وتحليلها. ويمكن إجمال تلك الآليات المعقدة تحت فكرة بسيطة توصل إليها العلماء عبر عقود طويلة من الدراسة والتجارب. تذهب تلك الفكرة إلى أن قدرة الدماغ البشري على تلقي المعلومات وتحليلها محدودة بمعايير كمية ونوعية ومشروطة بعوامل ذاتية وموضوعية. بالنسبة للمحدودية، يشير العلماء إلى أنه كلما زادت كمية المعلومات التي يتعرض الإنسان إليها كلما تناقصت فرص تحليل تلك المعلومات واستقبالها بشكل فعال. ومن ناحية أخرى، فإن قدرة البشر تصبح أكثر محدودية عندما يتعرضون إلى معلومات مختلفة من مصادر متعددة، بحيث يؤدي أي تداخل في أنواع المعلومات ومصادرها إلى تشويش يعطل عملية التلقي والتحليل وتحويل تلك المعلومات إلى معرفة. وهكذا فإن قراءة رواية مثلاً عملية لا يمكن لها أن تتم بينما يمارس القارئ نشاطاً آخر مثل لعب الورق. لقد طرح أحد الباحثين هذا المثال ليخلص إلى فكرة مفادها أن التعرض إلى معلومات مختلفة من مصادر مختلفة في وقت واحد يؤدي إلى الاستهلاك العشوائي للمعلومات، والذي يؤدي في النهاية إلى عملية معاكسة للمعرفة تنطلق من تكثيف المعلومات بشكل يفوق القدرة على تحليلها بهدف منع الاستفادة منها. إنها آلية معقدة تؤدي في العمق إلى التجهيل والسطحية ولا تختلف من حيث الجوهر عن آلية منع المعلومات وحجبها!!‏

تكتسب هذه القضية أبعاداً أكثر تعقيداً في سياق الثقافة الإعلامية المعاصرة التي يسيطر عليها فلسفة حرية المعلومات وتعددية مصادرها ومسؤولية الفرد في الاختيار. لقد أسست هذه المفاهيم ملامح الإعلام الكوني وأدت إلى ثورة حقيقية في مجال قدرة الفرد على الوصول إلى المعلومات. لكن الممارسة العملية للنشاط الإعلامي تنطوي على بعد سياسي خطير نشأ عن قدرة المؤسسات الكبرى على تحوير واستثمار التقنيات الحديثة في نقل وتوزيع وتخزين المعلومات. وانطلقت عملية التسييس تلك من تحويل العالم إلى فضاء عشوائي يفيض بالمعلومات في كل ثانية، بحيث تحول الفرد إلى مستهلك يتعرض بشكل مكثف ومستمر إلى كميات من المعلومات والصور والرموز تفوق قدرته على الاستهلاك والتحليل. وبالإضافة إلى الكثافة الكمية، هناك كثافة تزداد باضطراد في نوعيات وتعددية مصادر تلك المعلومات التي أصبحت حاضرة بشكل متزامن في الحياة اليومية للإنسان المعاصر. فهل يؤدي كل ذلك إلى إنتاج معرفة بالعالم، أم أنه يؤدي إلى إبطال إمكانية تلك المعرفة عبر خلق حالة تتعذر فيها إمكانيات التركيز وتحليل المعلومات بشكل منطقي وعقلاني؟!‏

لقد أشار العديد من المفكرين إلى حقيقة أن الإعلام المعاصر قد أدى إلى حالة من الاغتراب بين الإنسان والواقع، وذلك عبر سيطرة ثقافة الصورة والوسائط المتعددة التي اختزلت علاقة الإنسان بالعالم المتعدد الأبعاد إلى علاقة أحادية البعد بين الإنسان والشاشة. لكن ما ينبه إليه البعض اليوم يبدوأنه يتجاوز خطر التغريب إلى خطر التجهيل. فحقيقة توافر المعلومات بشكل حر ومتعدد أمر ثوري لا ينكر أحد إيجابيته وقدرته من حيث المبدأ على إنتاج المعرفة، لكن الممارسة الواقعية لاقتصاد السوق أدت إلى واقع لا يمكن تجاهل خطورته. ذلك أن تحويل الفرد إلى مستهلك عشوائي للتقنيات الرقمية بشكل مكثف تجاوز منطق الحاجة والقدرة قد أدى إلى إلغاء إمكانية التركيز وانعدام القدرة على تحليل المعلومة أوالاستفادة منها.‏

كانت المؤسسات السلطوية في الماضي تتبع أسلوب منع المعلومات وحجبها بهدف تجهيل الرأي العام وتسطيحه. فهل ابتكرت المؤسسات المعاصرة أسلوباً أكثر دهاء في تحقيق نفس الهدف يقوم على إغراق السوق بالمعلومات بحيث يتعذر الاستفادة منها وتنعدم إمكانية تحويلها إلى معرفة! لا يمكن بطبيعة الحال الركون إلى أحكام مطلقة في قضية راهنة ومعقدة كهذه. فتوافر المعلومات شرط جوهري وأساسي لا يمكن الاستغناء عنه، لكن القضية تتجلى في خطورة احتكار السوق لتدفق المعلومات وفي ارتباط هذه السوق بمصالح سياسية وبمؤسسات كبرى لا يمكن الوثوق بأنها مخلصة للشعارات التي تسوقها حول ديمقراطية الإعلام المعاصر.‏

عن مجلة كرونيكال الأمريكية‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية