تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لم يعد لي إلا أنا

ملحق ثقافي
9/2/2010
قصة: محاسن الحمصي/الأردن:أنتزعُ الخاتم من يده وأكتم صرخة كادت تخرج من بركان فمي لتذيب ما حولي،‏‏

يتراجع قليلا، يحدق بي مذهولا وينتظر رد فعل امرأة مرتبكة وكأنها لص يعرض بضاعته المسروقة..!‏‏‏‏‏

ألملم اعصابي واستدرك بأن لا ذنب لهذا المشتري أنا من دخلت متجره وانا من تبيع..‏‏‏‏‏

أضع يدي على السلسال الثمين المعلق في عنقي «الذهب ليوم عسر، وقد جاء» ماتبقى لي من عبق الماضي..‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏

والخاتم المنقوش بحروف وتاريخ، برهان ودليل مرور اسم رحل وآخر بقي على هذه الأرض ليكمل المسير..‏‏‏‏‏

بصوت هامس أعتذر، وأكتفي بما بعت، أقبض المبلغ وأغادر..‏‏‏‏‏

وجهتي وأين أمضي أعرفها، لكني أجهل كيف ومن أين، فتلك المرة الاولى التي تطأ قدمي منطقة شعبية مترامية الاطراف تدعى مخيم «الوحدات» سكنها اخواننا الفلسطينيون بعد النكبة.‏‏‏‏‏

أعلق الحقيبة على كتفي ويتعلق معها حمل تعب الأيام، يثقل الجسد، يتعب الخطوات، ويرهق الأعصاب.‏‏‏‏‏

«من في فمه لسان لا يضيع» وكما دخلت تلك المنطقة كي لا يعرفني أحد سأتدبر أمري وأخرج منها..‏‏‏‏‏

هواء جاف يلسع وجهي، وجفاف دمعي لا يكف..!‏‏‏‏‏

أتلفت حولي،خطواتي تسير بي دون اتجاه محدد، أين موقف الحافلات وأنا التي لم تركب يوما الا حافلة المدرسة الخصوصية..؟‏‏‏‏‏

أسمع صوت صفير، زوامير، يمر بجانبي شاب يصطدم بذراعي، وآخر يغمز بعينه، سيارات صفراء وملونة تقف في طريقي..‏‏‏‏‏

ماالذي يجذب نظرهؤلاء لامرأة تبكي، وجهها بلا مساحيق، ملابسها عادية: قميص، بنطال، جاكيت خفيف، حذاء رياضي، وشعرها معقوص ذيل حصان؟‏‏‏‏‏

هل أبدوارستقراطية الى هذا الحد؟‏‏‏‏‏

أم من عالم آخر هبط في منطقة مأهولة بالسكان البسطاء؟‏‏‏‏‏

أهي شفقة تخفيف من ألم المصاب، أم إثارة مكامن فحولة انتصاب..؟‏‏‏‏‏

أختار بسرعة تاكسي سائقه كهل، أتفاوض معه يقلني حيث أريد وينتظر، وافق على مضض وهويرمقني بريبة واستهجان،لعله حسبني مختلة العقل اوبي لوثة من جنون..!‏‏‏‏‏

يراقبني في المرآة، يتحدث..ويتحدث.. الطريق طويل، والصمت جوابي على كل ما سمعت ولم أسمع، فقد انشغلت بذلك الجزء الشرقي من العاصمة الذي أجهله ولم أره يوما أوأكتشف روعة شوارعه ومبانيه، من يدري ربما أكون مررت به لكن في سيارة زجاج نوافذها أسود..!‏‏‏‏‏

نصل بعد نصف ساعة الى البوابة الكبيرة، وندخل..يرتجفُ صوتي وأنا اقرأ..‏‏‏‏‏

«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون»‏‏‏‏‏

رهبة المكان لا ترعبني..ترهبني تلك السكينة وهذا العالم المختلف، المشحون بالهيبة، التفكير، النهاية، وبأن كل شيء الى زوال..‏‏‏‏‏

صوت الآذان، تلاوة القرآن، صرخات، شهقات، ومنظر نساء يتوشحن بالسواد، رجال يغالبون الدمع، يتماسكون أمام قضاء الله وقدره..وحده الموت..يقهر، يكسر ويحني رقابا..‏‏‏‏‏

حسرة في القلب،لوعة في الفؤاد، وروحاً تئن تعانق روح تصعد للسماء..‏‏‏‏‏

من فارق حبيبا، أما، أبا، أخا، عزيزا عليه أوقريبا، ومن يحمل نعشا يسارع إلى دفنه ومن يتساءل متى دوري وفي أي أرض أموت..!‏‏‏‏‏

وجوه حزينة، شاحبة، وأخرى مقنعة تقف في طابور الواجب والمصلحة..!‏‏‏‏‏

قلوب تنزف ألما وأخرى قاسية لا تعتبر من القاء نظرة على المسكن الآخير..!‏‏‏‏‏

أوقف التاكسي وأطلب منه الانتظار لمدة مفتوحة مدفوعة الاجر.‏‏‏‏‏

أخرج المفتاح، ملابس الصلاة، سجادة صغيرة، المصحف الشريف من حقيبتي، أصعد درجة، أفتح الباب أنظر الى القبر وأجهش بالبكاء..‏‏‏‏‏

- تأخرت، مضت أسابيع شغلتني عن زيارتك لكنها لم تشغلني عن الصلاة والدعاء لك والتحدث إليك في ليالي الألم والمرارة..يقال إن الروح تطوف في السماء وتحرس وتراقب من تحب، فهل كنت هناك، تراني، ولا تملك القدرة لحمايتي..!‏‏‏‏‏

أتبكي عليّ؟ أم تبكي لأنك تركتني أواجه قدرا غافلني دون سابق انذار وظروفا فاجاتني لم أرتب أوراقها وألتزم جانب الاحتياط والسلامة لتسلم حياتي..؟‏‏‏‏‏

أتدري أن الذي أخذني مراهقة «من مبدأ الزواج سترة» من حضنك الدافيء وبيتك الآمن الى حضن بيته السحري‏‏‏‏‏

ابتلع رصاصة بطعم الخلاص وترك خلفه عالما يبتلعني..!‏‏‏‏‏

علمتني الصمت، الصبر، الاحتمال وعلمني أصول حياة الطبقة المخملية، الرفاهية، الاتكال، السفر والمتعة..‏‏‏‏‏

لم تناقشني يوما في العمل الدراسة «الشهادة سلاح المرأة» ولم تشجعني على المتابعة لدخول الجامعة بدلا من قضاء الوقت في الحفلات،السهرات، التمثيل، التصنع وتفاهات الجري نحوآخر صرعات الموضة، عمليات التجميل، وجلسات لاتثمر ولا تغني من جوع..وأن هناك جانباً للمعرفة والتثقيف في محاضرات، ندوات، معارض، منتديات فكرية وعلمية..‏‏‏‏‏

ولم تشاركني يوما في الحديث عن الأسواق، الاقتصاد، البنوك، البورصة، والحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة..!‏‏‏‏‏

رحلت ولم تر حفيدا تستمتع بضحكته، وغاب هودون أن يترك من يحمل اسمه..‏‏‏‏‏

حرمتني المراهقة، وحرمني الأمومة..‏‏‏‏‏

سترتني أنت، وهوكشف غطائي وتعريت‏‏‏‏‏

بعتني مكفولة للثراء، وعلى بعد أمتار منك يرقد المشتري في حفرة بالخلاء..‏‏‏‏‏

أعوام من عمري حذفت برصاصة..!‏‏‏‏‏

الأصدقاء..اضمحلوا، اختفوا..الذئاب التي كانت تلاحقني بأنيابها توارت إلا من عروض للمتعة.‏‏‏‏‏

الألسنة نهشتني، حرقتني نارها، باتت آلامي تهمة، بكائي عار، مشاعري جريمة، لم أعد أرى وجه واحد قريب، حتى وجهي تغير واتخذ أبعاد الحزن والقسوة، وقلبي تحول الى قطعة رخام..لم تعد لدي خيارات لفتح باب أمل غدٍ جديد..‏‏‏‏‏

فقدت البوصلة، الاتجاهات،اكتأبت، تداريت، انزويت، أبحث عن مكان أنتمي له عن هوية،لا بيت، لا مال، لا عمل أقتات منه بعرق جبيني دون مد كفي لأهل أولشامت وسجنت خلف قضبان الحياة..!‏‏‏‏‏

دلني ماذا أفعل، أرشدني، أعطني إشارة، ومضة، لطالما كنت الأقرب، تصغي، تجد مخرجا وحلا لكل مستجدات أيامي..؟‏‏‏‏‏

أمسك القرآن وأبدأ في تلاوة «سورة يس» وجزء عمّ وأصلي على النبي الأمين لتهدأ نفسي وتتبدد مخاوفي..»ألا بذكر الله تطمئن القلوب»..‏‏‏‏‏

أسمع خطوات تقترب من الباب، أتحفز، يرتعش جسدي، أيعقل أن أهاجم في هذا المكان؟‏‏‏‏‏

تدخل قطة بنية اللون، تتقدم نحوي وتتمسح بساقي، لعلها جائعة..أتناول قطعة بسكويت من حقيبتي أضعها أمامها..تقضم لقمة وتمضي..‏‏‏‏‏

انهي الصلاة والقراءة ويمضي الوقت بي، أضع رأسي بين يدي وقلبي أضعه على القبر البارد..‏‏‏‏‏

تقع عيني فجأة على الأرض أسفل قدمي،وأنا ما تعودت النظر إلا الى الأعلى، حسب مفاهيم الحياة التي عشتها في ظل رجل مهم..!‏‏‏‏‏

ألمح رتلا من النمل يتسابق، يجتمع حول فتات البسكويت ويحاول رفعها.. محاولات، التفات دوران، فشل، ومحاولات اخرى..‏‏‏‏‏

أراقب المشهد، أشرد بأفكاري، أحرك مخيلتي، يا الله.. كم استغرقني الوقت لأخذ درسا من هذا النمل الدؤوب..؟‏‏‏‏‏

أملك العقل، الصحة، الشباب، وفي داخلي يسكن الإيمان،إن هربت الآن فسوف أهرب إلى الأبد لن أطفيء قنديل أيامي،سأحقق أحلامي ولوفي المنام، سأغسل غبار ثوب السواد، فمن كن بمثل عمري مازلن في ردهات الجامعة.‏‏‏‏‏

أخلع الخاتم، أدفنه الى جانب قبر يضم رفات أعز الناس، ومعه أدفن سعادة وبؤس ماض رحل.‏‏‏‏‏

يارب اغفر له وارحمه فقد سامحه قلبي منذ أعوام..‏‏‏‏‏

أغلق الباب بهدوء، أجد السائق امامي دامع العينين، يناولني ورقة..اليك رقم ابنتي الأرملة، مديرة جميعة تعاونية نسائية، يعلمن الطهي، الحياكة، التجميل، الحاسوب بأسعار زهيدة..‏‏‏‏‏

الى أين تذهبين الآن؟‏‏‏‏‏

أردد كلمات الشاعر كامل الشناوي:‏‏‏‏‏

ففي الشكوى انحناء/ وأنا نبض عروقي كبرياء أنا لا أشكو.‏‏‏‏‏

أعلق الحقيبة على كتفي وقد خفت..ومعها خف الكثير من أثقال حيرة وهموم..‏‏‏‏‏

أترى هذا الاسم الكبير المنقوش أعلى الباب..خذني الى بيته..بيت أبي، ودعني أنام قليلا..‏‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية