|
ملحق ثقافي وهوأن المساهمات النقدية جعلت السخريةَ لديه، وكأنها تنبع من اللغة وحدها مفصولة عن البنية السردية أوعن طبيعة المتن الحكائي. سأحاول الآن أن أتحدث مع بعض الأمثلة عن التشكيل الساخر عند الكاتب المذكور بما يحتويه من مكوِّنات لا يمكن فصلها عن متونه السردية:
1- الأسلوب الإخباري الحكائي المرن: فالقصة لديه قائمة على بنية خبرية، أساسها: الإبلاغ عن أمر حصل أوأمور حصلتْ، وهي على صلة واضحة بمسرودات الأخبار الجميلة الغنية الواردة في كتب التراث التي أسهمتْ في تكوين ثقافته. والمهم أن هذا الأسلوب يتمتع بالمرونة وقابلية القطع والإضافة والخروج عن السياق، ثم العودة إليه.. أي أنه يعطيه الفرصة لتقديم رواية شعبية للحدث مفعمة بالتلاعب الساخر الذي يفضي إلى البهجة والمرح، ويحقق غرضه في نقد الأحوال المزرية. إن حسيباً-كما يعرف قراؤه- لا يتقيد برواية حدث واحد في قصصه، بل سرعان ما يخرج إلى حدث آخر ساخر، وربما إلى ثان وثالث، أويتذكر شخصيةً يمكن الضحك منها، فإذا به يدفعها في مجراه السردي، وببراعة يستطيع في نهاية الأمر أن يقنعنا بأن وجودها لم يكن زائداً عن الحاجة. يرتبط بما سبق ارتباطاً وثيقاً أننا نجده يملأ بنيتَه الإخبارية بحكاية بسيطة «حدوتة»، يتضح سريعاً أنها خفيفة الظل كحكاية حلاق الحارة أوحكاية»الخضَّة/الجنون الخفيف عند آل الكمالي» أوحكاية البنت المتعالية على منبتها، لكنَّ المنبت عالق بها كالدبق بلحية كثيفة، أوحكاية رجل أمنيته الكبيرة الحصول على باب.. مجرد باب للغرفة التي ورثها عن أهله! لقد دأب حسيب على تقديم الحكايات في نصوصه، وهويحجز لنفسه دوماً كرسي الحكواتي، ويستعين بالكثير من وسائله كـ: * الاستهلال الحكائي:»سأحكي لكم حكاية واحد من فئة من الناس...»- حكاية: المطهِّر. * المساند الحكائية: وهي تساعد على المتابعة والانتقال من جانب في القصة إلى جانب سواه مثل: «إي سيدي- ليس إلا- حاصله- المهم في الموضوع- فُتناك بالحكي..إلخ». * التعليق على الحدث: في سياق الحديث عن نحات مغرور بنفسه مع أنه ضعيف الموهبة يذكر بأن الوزارة أصدرتْ قراراً بإيفاده في بعثة، فيقطع السياقَ معلِّقاً بسخرية:»كأنه كان في حاجة إلى دراسة أوبعثة» حكاية: النحات. وهكذا فبنية القصة الحديثة المُحكَمة المنضبطة في كل كبيرة وصغيرة تشكِّل عائقاً- كما أعتقد- أمام سخرياته ذات الطابع المتدفق المفتوح على نوافذ الذاكرة، وهذا لا يقلل من إبداعه، إنما يضع أولى العلامات في خصوصيته. 2- اكتشاف المضحك في المبكي: مهما كانت الحوادث التي يتناولها حسيب قاسية، كئيبة، فجائعية، مملوءة بمرارة من درجة»سوبر»، فإنه-ببراعة فريدة- يرى فيها ما يبعث البسمةَ والضحكة! عينه المرهفة المولعة بالمرح تستطيع أن تخترق أغلفةَ الحزن، وتصل إلى مرادها الكوميدي ولوكان في سابع سماء أوسابع أرض! لا يعني هذا أنه يغفل عن القبح أويستخف بعقل القارئ، فيزعم له أنه غير موجود، وأن الدنيا بألف خير. كلُّ ما هناك أنه يصطحب قارئه إلى ضفة الضحك، فيريه الوقائعَ من زوايا مختلفة يمكنه معها أن يشاركه السخريةَ والهزء. في قصة»ميت إلا شوية» يصف حادثَ سير مرعب، تعرضتْ فيه سيارة لصدمة من الخلف، فأخرجَتْها عن الطريق مسافة خمسة وسبعين متراً، وأطارت الصدمةُ البابَ الأيمن وأحدَ المقاعد، والراكب في ذلك المقعد انقذف ونزل صدغه على الحجر الصوان، لكنَّ خفة الدم تتسلل إلى المشهد، فيغدوشيئاً آخر، فالراكب الذي سقط على الصخر يستعيد وعيَه، فيجد المسعفين يدللونه وهم في الطريق إلى المشفى في الشام، فإذا به ينبسط، ويأخذ في العنعنة والتأوه: آخ يا ظهري، أنا متأكد أن العمود الفقري مكسور شقفتين، والسائق اللبناني الذي ينقله كان يقول: سليمتك ياخيي.. «أي سلامتك»، ويعود المصاب للعنعنة: كل خوفي أن أعيش وظهري على هذا الشكل فلا أعود أنفع للنسوان! 3- كاريكاتير بالكلمات: يفعل هذا القاص في نصوصه ما يفعل رسام الكاريكاتير في لوحاته حينما يلعب بمقاييس الشخصيات تطويلاً وتقصيراً ونفخاً وتنحيفاً وإجحاظاً للعينين، وتوريماً للشفتين حتى تصبح الواحدة منهما بحجم مخدة صغيرة! أوكما يقال في العامية: «واحدة وَطا، والثانية غَطا»! ويزيد حسيب على رسام الكاريكاتير بأنه لا يُكرتر الأشخاص فقط «يصنع لهم كاريكاتيراً»، وإنما يكرتر المواقف وحتى الحالات النفسية: * كاريكاتير الأشخاص: نجده مثلاً في قصة: «الأشكال» حيث يسخر من مسؤول منحرف بياع شعارات في أحد أحزاب اليسار، صار شديدَ البدانة، توحي بدانته بالكسل والغباء والمواظبة على المآدب: «وجاء المسؤول الكبير. ماهذا؟ منذ الوهلة الأولى اندفعتْ إلى لساني هذه الهتفة: «ولكنْ هذا مخروط!» وكان هذا صحيحاً حتى الإيلام: كل ما فيه كان مخروطياً، آمنتُ بالله، رأسه مخروط، قاعدته، رقبته وذروته، قمة رأسه، يداه مخروطان، كتفاه مع كفله العرمرم!» * كاريكاتير المواقف: من نماذجه ما جاء في حكاية: «فوفووأخوها دودو»، فأيمن المتعطش للنساء يطمع حتى في السيدة فريحة المتدينة المتزوجة، وإكراماً لها يصطحب أخاها «دودو» في مشوار فُرجة على مدينة دبي. كان يظن أن «دودو» طفل، لكنه رآه في سن العشرين! «ويظهر أنه من فتيان الديسكووالسلسلة الذهبية في المعصم والطوق البلاتيني المتدلي حتى منتصف الصدر المفتوح». بعد جولة في المدينة يأخذه إلى بيته، فما إن يرى «دودو» الهاتف حتى يصرخ: تلفون! يدعوه أيمن متساخياً ليتصل بمن يشاء ظناً منه بأن هذا سيسهم في الوصول في فريحة، وأن اتصالات دودوستكون داخلية، لكنَّ طامة كبيرة تقع على رأس أيمن الموظف البسيط، فـ»دودو» يتصل بأهل خطيبته في مصر، وهات ياكلام مع حميِّه ست دقائق! ست دقائق أخرى انتظار لتأتي خطيبته ناريمان وأمها من بيت الجيران! إذ أخبرَهُ حميُّه أنهما هناك.. اثنتا عشرة دقيقة تعني ستة وتسعين درهماً! وعاد صوت»دودو» يلعلع لناريمان عندما سمع صوتها: نونو، أنا دودو. وحشتيني يا حبيبتي وحشتيني موت. * كاريكاتير الحالات النفسية: في الحكاية السابقة نفسها أيمن يفكر في فتيات الشركة العازبات التي يشتغل فيها، ولأنه يعيش كثيراً مع الأطياف «يقع له أن يتصور تصوراً حاداً أنه خطب إحدى هؤلاء، وألبسها خاتمَ الخطبة، واتفقا حتى على لون غرفة النوم وماركة الغسالة، وإذا هويراها تمازح زميلاً من الزملاء في شيء من التحرر، فيفور في قلبه غضب كظيم يعقد مابين حاجبيه، ويملأ نفسَه بالمرارة وبالإحساس بأنه غُدر به، فيقاطعها ويتجنبها حتى بتحية الصباح!» 4- الإحالات الساخرة: بها يوسِّع آفاقَ نصوصه ويغنيها بالموروث الحكائي العربي وبالينابيع الثرة للثقافة الشعبية من خلال إشارات سريعة دالة ذكية، فهويحيل مثلاً إلى سخريات الجاحظ في «البخلاء» وفي «رسالة التربيع والتدوير»، وإلى ابن الجوزي في كتابه»من أخبار الحمقى والمغفَّلين»، وإلى «ألف ليلة وليلة». أما أكثر إحالاته فهوإلى الأمثال الشعبية ذات البعد الفكه القوي الدلالة: 5- مجالسة القارئ أوالنص المقهى: تختطف حكايات حسيب أوقصصه البسيطة القارئَ من مكانه وزمانه لتضعه وجهاً لوجه أمام القاص الجالس أمامه في زي الحكواتي ولسانه، فإذا به يصغي إليه بقلب مفتوح وشفتين يتناوب عليهما الابتسام والضحك والقهقهة، وقد يظن القارئ أنه يحاور المؤلف الذي صار حكواتياً أويتماهى في أحد شخوصه أويشاركه في تمثيل موقف. 6- لغة السرد: وهي من أبرز المعالم في تشكيله الساخر، وبها يتمكن من إنجاز فنه كلِّه.. إنها بالنسبة إليه كالخط واللون في يد الرسام، وكما يصبح اللون والخط جزءاً من لوحة الرسم تصبح لغة حسيب جزءاً مكيناً من بنية نصوصه. إن اللغة لديه لها منظوران قد يكونان متعارضين لأول وهلة، فهي آية في البساطة عند القارئ العادي، وهي آية في التركيب عند القارئ العارف بأسرار العربية، ذلك الذي يدرك أن مظهرها السهل يأتي من مهارة الكاتب في إخراجها واستعمالها كجريان النسيم وسيلان الماء. إن الكاتب يقوم بعملية الجمع بين العامي والفصيح من دون أن نشعر بأي تنافر حتى وهويضيف رموزاً عديدة من مناهل الدين والأسطورة والعلم والفلسفة والتاريخ كأفلاطون وأبي مسلم الخراساني، كما أنه- عند الضرورة- يغمس قلمَهُ بشاعرية من النمط العذب السهل الإدراك، وذلك في مواقف اللهفة والغرام ووصف الطبيعة الإدلبية الخضراء وغيرها، ومع هذا وذاك يتجه في لغته بين آن وآخر إلى النحت، فيبتكر منحوتات لفظية مدهشة مضحكة مثل: * الكائع: نَحتَها من كلمتَيْ: الكاتب والبائع، وقد استخدمها لوصف كاتب صار يتاجر بإنتاجه، وكأنه سلعة! * الرسائل المُكَيْستة: نحتَ صفةً من كلمة: «كاسيت» ليصف بها الرسائلَ المبعوثة في كاسيتات. أخيراً.. يكشف التشكيل الساخر عند حسيب كيالي عن مهارة ترغب في أن تقدِّم ما لديها بأسهل الأشكال والأدوات، فهي زاخرة بمكنوناتها ولا تبحث عن الحذلقة، ورغم اعتماده الحكايةَ أوالقصةَ الحكائية- التي قد يقلل بعضُ النقاد من شأنها في مُنْتَج الحداثة- فقد استطاع أن يكتب ملحمةَ الحياة اليومية للبسطاء وأبناء الشعب على اختلاف طبقاتهم، وما كتبه مازال يخطف القلبَ بسرعة عجيبة مؤكداً سحرَ الكتابة وعظمةَ الكاتب الذي يصنع ذلك السحر. |
|