تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


يموتون وتبقى أصواتهم ق.ق.ج..انتزاع الصورة من ظلمتها الفطرية

كتب
الأربعاء 3-2-2010
أنور محمد

هي لقطات سينمائية لكنَّها ورغم تكبيرها لاتزال لقطاتٍ صغيرة تلك اللقطات –القصص القصيرة جداً - التي يكتبها القاص السوري عمران عز الدين أحمد :(لإنهاء العمل بالسرعة القصوى,

قرَّر أحد الأثرياء أن يستأجر مئة حمار لنقل مواد بناء عمارته الجديدة, لكنَّ مالك الحمير طلب منه أجراً باهظاً, وبعد تفكيرٍعميق, عدَلَ الثري عن فكرته الخائبة, واستأجر خمسين عاملاً بنصف تلك الأجرة).‏

إنَّها لقطةٌ – تفصيلٌ يُفرجينا فيه عمران عز الدين أحمد لحظةً مستمرَّةً للعبودية-لقطة والقصة القصيرة جداً هي لقطة, هي خبرٌ في حكاية يُراد بها تكبير صراع تجري فيه الحياة جرياناً لا يُجزَّأ- جرياناً يحفر في النفس بعمق لايمكن ردمه كما في القصة القصيرة: (اشتدَّ نباح الكلاب, حين شرعَ اللحَّام الموجود في الحارة يبيع العظام إلى الناس الفقراء). لقطة أخرى كبيرة قريبة, لقطة لفعل يقع علينا, لكنَّ عمران لاينمذجه, كما إنَّه لايمكن أن نؤِّله أو نقرأه غير قراءة واحدة, فنمسك سكينا, ونصير أمام لقطته هذه نقطِّع شراييننا شرياناً شرياناً؛ ونشوف الدم يقطر منها ونحن مبسوطين من كثرة الألم, ليس لأننا مازوشيين, ولكن لأننا حصلنا أخيراً على العظمة كقوتٍ أخير.‏

عز الدين أحمد في قصصه القصيرة جداً يرسمُ, ومن ثمَّ يحرِّك صوراً من حولنا, وأينما نظرنا سنفاجأ بأنه لايني يفجِّرها على شاشات ذاتنا / روحنا؛ فنرى الذي يبيعنا ويشترينا ليس ليثري- ولكن لينكِّلَ فينا ونحنُ مانحن . إنه قاص كما (زكريا تامر) يأخذ حدثاً واقعياً ثم يحوِّل مسار توتره, فيعطيه منحاً جديداً ربَّما يكون فيما يكونه سوريالياً, فيتصارع الواقعي مع اللاواقعي وفي زمن واحد, صورة حركة تجري أحداثها على مرأى من عقلنا فنصدِّق مايجري ولا نصدِّق وكأن عمران أحمد يتهكَّم منا: (كان والدي يعطي مصروفاً لأخي الصغير ويحرمني منه . وكنت أتحيَّن الفرص كي أسرق مصروفه, وكنا دائماً نتعارك.لما تكرَّرت هذه القصة كثيراً قطع والدي المصروف عن أخي, فاتفقنا على سرقة معطفه). إنَّها صورة لمشاعر القهر يرسمها عمران ؛ مشاعر تجد بطولتها في اللصوصية, فينقلنا من كلام عادي يسجل إيقاع الحياة في أعماقه إلى صورة لا نملك قرَّاءً إلاَّ نحسّها لقطةً سينمائية غنية بالتوتر وبالتكثيف الدلالي, الذي يبين عن خمائر نقدية بقوَّةٍ غير محدودة, تريد تنكِّل بالجوع والفقر والأغنياء وباللحظة التي ولدنا فيها: (بعد أن باءت جميع محاولاته بالفشل, وضع عبد الستار شهادته الجامعية في درج الخزانة وأحكم إغلاقه, ثمَّ التحق بدورة (بودي جارد) نظَّمتها إحدى الملاهي الليلية). كأنَّه طائر جارح ولكن يريدون تعليق حركته. هنا منتهى القسوة والتهكُّم, فنرى لقطة مرعبةً لعبد الستار الذي هو بمثابة الضمير الجمعي-الضمير المُهان, الضمير المستباح, المغصوبُ المغتصَب, المكسور المنكسر لقصص المجموعة وهو يقف أعزلَ بمواجهة الذكاء الشيطاني للعبيد وهم يتحكَّمون بالأحرار. فعبد الستار رغم الحكم بموت الشهادة/العِلْم, فإنه لايزال يفكِّر, إنه يضع عقله أو يشيِّعه إلى ثلاجة الدرج.‏

عمران عز الدين أحمد في«يموتون وتبقى أصواتهم» يكتب أفلاماً/لقطاتٍ سينمائية بكثير من الإدراك الحسي والإدراك القصصي, فنرى ونحن نقرأه صوراً من حركة, وقد نشر عليها- نشر فيها ضوءَ روحه لينتزعها من ظلمتها الفطرية؛ إنَّما بذكاءٍ وليس بخبث.‏

صادر عن دار التكوين / دمشق- بيروت 2010.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية