|
منوعات وغـصناً غـصناً في حديقة كوليت المسيجة بالخضرة والإبداع في زمن استثنائي ، كـان للـمـغـامـرة الإبـداعـيـة فـيه طعم مختلف ، لا نكاد اليوم نعثر على أثر له في فوضى حياتنا الحاضرة ! كانت العـزيـزة كـولـيت يـومذاك تفتح صـدر بـيتها لنخبة من الأدباء و الفنانين المشاكسين المهـووسـيـن بـحـلـم التحديث و ترميم الخراب ، زكريا تامر و سـعـد الله ونوس وسـمـيـر كحالة ومـمـدوح عـدوان ، وولـيد حجار و غيرهم من وجوه ذلك الزمن الذي صار اليوم غابراً ، كانت نارة أو مـرسـيـدس دوزياس كما هو اسـمها اللاتيني ، فراشـة كوليت الأسطورية التي تطير بين الـثـريـات في فـضاء ذلـك الـبـيـت الألـيـف ، وحين تتعب تحط على كتف كوليت ، و تتفرس في وجـوهـنـا المبتـلة بـعـرق الـبـحث عن معنى وجودنا ، و كأنها تنظر إلى مخلوقات خرافية تنسج أعمارها بالكلمات و الجمل المفيدة و الألوان المستولدة من مشاتل الأحلام ! حـيـنـمـا تضجـر نارة من لـغـونا ومقارعتنا للأفكار و شظاياها ، كانت تنسحب بهدوء نحو ركـنـها الأثـيـر ، فتجـلـس خلف طاولة البيانو و تغرق في عزف شـجي يستدرجنا لنتحلق حولها غـارقـيـن في تـأمـلاتـنـا ، فـلا نـكـاد نعرف إذا كانت أصابعها تعزف على مفاتيح البيانو ، أم أن مـفـاتـيـحـه تـعـزف على أصـابـعـهـا ، ولا نعـرف أي اللغات التي تليق بسكون ذلك الليل ، لغتنا الـمـتـوتـرة الـتي تدور في فضاء الأسئلة الوجودية الكبرى ، أم لغة نارة التي تنساب في أسماعنا كبوح سماوي بعيد ! عـنـدما تجلس نارة إلى دفاترها وكتبها و أقلامها و وظائفها المدرسية ، كانت كوليت تكحل عـيـنـي فـراشـتـهـا بالحـبـر و تمشط شعرها بأقلام عاجية ، فتبدو في مرآة روحها نبتة متوسطية عـيـناها من نارنج دمشق و شعرها من حدائق قرطبة ، هي قصة كوليت الطويلة التي تسهر كل لـيـلـة عـلـى نـمـو أحـداثـهـا ، تطـوقها بعقود الياسمين ، و توقظ في عينيها الأحلام ، و تغني لها بـصـوت يـخـتـصـر كل فرح العصـور ، هي حنطتها السمراء المنذورة لأطول ربيع في التاريخ تـخـزنـها كوليت في رئتيها لتتنفس بها و تمنحها الهواء والعطر و فرح العمر القادم ، كانت نارة لـعـبـة كـولـيـت حـيـنا ً، و حيناً أخر تصبح كوليت لعبتها ، تتبادلان دور الأم و ابنتها في طقوس مـبـهـرة لا تـدرك أســرارها سوى أم تفيض بغنى الروح ، و ابنتها التي يتوثب بها صباها كنسغ معافى في غصن تفاح صار ثمرة على وشك النضوج ! كـانـت نارة صـلاة كـولـيـت و كنيستها ، تقرع أجراسها كلما توجهت بدعائها إلى السماء ، فـيـمـتـلـئ الـبـيت حـولها بالـرنين ، تستدرج الحمام ليحط على شرفتها قبل أن تفيق لتصحو على الـبـيـاض و السلام القادم من الزرقة المطلقة ، و حين تأوي إلى فراشها تسيج سريرها بالصلبان و الأيقونات و طيوف العذراء الخالدة ! بعد أن تفرقت بنا السـبـل و اقتسمتنا دمشق أشـلاءً في حاراتها العتيقة و أشلاءً أخرى بعيداً خلف ظـهـرهـا ، لم يـبـق من نـارة لديَّ سـوى نـثـار خبر يأتي من هنا و هناك ، كـبـرت فراشـة كـولـيـت و تـمـرسـت في الطـيـران ، فـحـطت في باريس و صارت أصابعها تعزف على جراح الـبـشـر ، بـدلاً من مـفـاتيح الـبـيـانـو ، امـتـهنت الحكمة ، و كونت أسرتها الصغيرة و اتسع قلب كـولـيـت لـيحتـضن ضيوف روايتها الصغار ، إلى أن عـصف بباب عزلتي نبأ الرحيل المباغت ، و اكـتمال الـسـطر الأخير في الرواية المطعونة في صميم الروح . أيتها السـيـدة الصـديـقـة العـزيـزة كـوليت ، أستأذنك في شتائك الحزين أن أقطع عليك حبل أحزانك ، فأتوكأ على الألم و أشاركك الوجع ، و أوصيك بالصبر الجميل ! |
|