|
ملحق ثقافي واشتعلت حفنةٌ من الديناميت في أعصابي النّاشفة. استسلم الطّريق لخطاها القصيرة السريعة، وأنا كالذّاهل أحاول ألاّ أشهق، توقّف الطفل فجأةً، مدّ رجله الصغيرة، فانحنت لتعقد سيور حذائه. لم أعد قادراً على حمل المطرقة، رميتها، رفعت كوب الشاي، وكرعته دفعة واحدة، فرغت هي من الرباط، همّت تقف، فوقعت عيناها على اللافتة المُنارة، تجمَّدَت، فرّ قلبُها إلى اسمه، في الأعلى مكتوب: «الدكتور» وفي الأسفل ثلاث كلماتٍ... اسمي أنا في الوسط. ذوى وجهها، فَقَدَ الحياة، واكتسى نثاراً من اللّهفة والألم، كسر صغيرها ثمالة اللحظة: «ماما شو بكي... يلاّ»، قامت دون أن تقوى على التّعليق، فالعالم بما فيه بدا محبوساً في حلقها، حضنت أصابعه الناعمة ومشت، تهادت مثل هودجٍ بينما تعلّقت مقلتاها باسمه.
بدأ خرير الماء يهدر في ذاكرتي الغامقة، أسمعه الآن بالوضوح ذاته، تملؤني رطوبته ذاتها، حتى أنّي أرى ابني أمامي أو أكاد، لمحته وقتها قرب الوادي، راعني أمره، فتسلّلت لأفهم، جاءته هي بخجلٍ شفيفٍ أشبه ببقايا التوت الأحمر على فم الأطفال، كان سكوتهما نحيباً يبلغ حدّ النشيج، امتدَّ الصمت حتى يباس الثواني فلا هي تنطق فينطق ولا هو يتركها فتنسحب، خُيّل إليّ حينها أنّي أستمع إلى لهاثه وإلى دقّات قلبها الحرّى، كان الهواء بين أنفاسهما مترعاً بالشذا، اعتقدت أنّه يتحرّق لهفةً لأخذها إلى صدره غير أنّه كفّ عن تأمّل قرطيها اللامعين، خرّ أخيراً وقال: «أبي... ، قاطَعَته سريعاً: «أجل» وابتلعتْ ذلك النزيف الباطنيّ للكلمة، ذابت نظراتهما الظامئة، صارت هي شمعةً مطفأةً، وصار هو خيالاً أو حطام خيال. كنتُ رُزقتُ بالبنت تلو البنت، انفجرتُ بزوجتي: «أريد صبيّاً يحمل اسمي، صبيّ صبيّ صبيّ»، لا بدّ أنّ زوجتي علّقت في سرّها : «أيّ اسمٍ حقيرٍ لمسحوقٍ لا يفقه إلاّ في النعالة» لأنها لم تعرف أيّ قرفٍ منّي يحرّضني على تغيير سلالتي، على نسفها وتشكيلها من جديد. ... وجاء الصبيّ، وحيث أنّ الدلال يُفسد فقد ربيّته على الصراط المستقيم بالعصا والحزام والجزمة. ولدي الذي صار طبيباً بالعصا والحزام والجزمة وبرغم أنف الفقر لم يكسر لي كلمةً إلاّ أنّه تجرّأ يوماً وجاءني برغبةٍ عجيبةٍ... يريد الزواج من ابنة خصمي اللدود، يا سلام ابن نعّالٍ يقترن بابنة بيّاع جوارب فأيّ ذريّةٍ أرتجي وأيّة طعنةٍ في الخاصرة تلك النهاية، رفضت، اخترعت له أسباباً تمسُّ الكرامة، حاول معي كثيراً، تشاجرنا كثيراً، بلبل الدنيا، إلاّ أنّي لم أجد خيراً من اعتلال صحتي لأضمن بها إذعانه، ألقى بكلمته في أذني: «أحبّها»، فأطلقت جملتي بغلٍّ في صدره: «أنا رجلٌ قصيرٌ مريضٌ بقلب ديناصور وأنت طبيبٌ بقلب ماسح أحذية»، تكسّر لحظتئذٍ كما الفخار وغرز عيناه في الأرض وسكت. كانت تحدّق باللافتة كمن تفكّ الضمّاد عن جسد مومياء، وتتشبث باللحظة مع يقينها بأنها ستذوب، أفهم أنّ لحم الوقت لا يلتئم فوق الجراح العميقة لهذا فإنّ قلبي الخشب يتعلّمّ الآن – لأول مرةٍ- كيف يشم رائحة جرح ويستمع لأنين الخطوات البطيئة ويرى رعشات الوجد واختناق البرق في عينين. زمّ الصبيّ فمه وصرخ: «أيّ... إيدي... وجعتيني»، جفلَت وقد باتا أمامي، انتبَهَت إلى أنها تضغط على أصابعه بقوةٍ، سحبت يدها، مسحت شيئاً سال على خدّها، عندها تناولت المطرقة وضربت فوق الحذاء المثبّت حتى من دون مسمار، أردت أن أجعلها تلحظني، أن تعرفني، أن تخاطبني: «قلبي عليك يا عم» أو «تفو عليك» لا فرق، المهم أن تطلق أيّ كلامٍ يخرق حملي الثقيل، أية نظرةٍ مشفقةٍ تقصّ أعصابي، ولكن بالكاد استدارت حتى توقّفتُ مذعوراً ليس لأنها همست: «في شي فات بعيني يا حبيبي وهلق شلتو»، وليس لأنها حملته كما يحمل الضوء الفراشة ومضت به سريعاً وإنّما لأنها لم تكن هي. تملّيتُ في اللافتة... الوحيدة الباقية من ابني... والتي كتب عليها أن تحمل اسمينا، ثمّ واصلت الطرق وسائلٌ يتساقط فوق الحذاء قطرة... فقطرة. |
|