تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفلاسفة الكبار لا يستسلمون بضربة واحدة

ملحق ثقافي
20/ 3 / 2012م
حاتم حميد محسن/ لندن:الفيلسوف المثير للجدل ليو ستراوس Leo Strauss شيّد فلسفته على القراءة الباطنية لأفلاطون،

لكن بحثاً جديداً مدهشاً كشف أن ستراوس كان مخطئاً، ليس فقط في أعماله عن أفلاطون وإنما أيضاً في منهجه ورؤيته التدميرية للفلسفة السياسية.‏

بعد أن درس مع كاسيرر وهايدجر وهسرل، فرَّ ستراوس من المانيا النازية ووصل لاجئاً إلى الولايات المتحدة عام 1937. وفي جامعة شيكاغو، اشتهر ستراوس – أو ساء صيته بتأكيده أن الخوف من الاضطهاد هو الذي دفع أفلاطون وغيره من الفلاسفة لإخفاء عقيدتهم الحقيقية. القارئ الذكي كان يُفترض أن «يقرأ ما بين السطور» ليكتشف فلسفة أفلاطون الخفية والخطيرة.‏

هذه الطريقة في قراءة أفلاطون هي ببساطة تتجاهل أعمال الباحثين المحدثين الذين كتبوا حوله. منذ القرن التاسع عشر اتخذ التيار السائد للباحثين من المعنى الظاهري لحوارات أفلاطون الأساس لأعمالهم. هم بذلوا جهداً شاقاً في القراءة الحرفية لأفلاطون. وكما في ستراوس، العديد من أتباع أفلاطون في العصور القديمة قالوا إن الحوارات كانت رمزية. المحادثات في ظاهرها كانت تكفي لتعليم قرائها، ولكن الطلاب في المستويات المتقدمة يُفترض أن ينفذوا بعمق في المبادئ الذكية المشتقة من فيثاغوروس.‏

ستراوس تجاهل هذه التفسيرات القديمة. وبدلاً من ذلك هو وجد في أفلاطون مقاومة مشككة بكامل النظرية وبجميع الميتافيزيقا. إن نظريات أفلاطون حول الأشكال والأرواح والخير كانت مثيرة للحيرة والالتباس. ستراوس كشف عن أسرار أفلاطون وجعلها محور فلسفته الخاصة، ولكن الكثيرين اعتبروا رؤيته لأفلاطون كأنها تكهّن غير حقيقي برفض هايدجر أو نيتشه للميتافيزيقا.‏

الآن اتضح أن ادّعاء ستراوس بمعرفة الفلسفة الباطنية لأفلاطون لم يكن واقعياً. كتاب «جاي كندي» الجديد «البناء الموسيقي لحوارات أفلاطون» يؤكد أن أتباع أفلاطون القدماء كانوا على صواب. حوارات أفلاطون تحتوي بالفعل على رموز اُشتقت من فيثاغوروس وتلاميذه. هذا ليس مجرد تفسير جديد لأفلاطون. هناك نماذج موسيقية محددة في الحوارات يمكن التحقق منها بدقة وموضوعية.‏

هذا البحث الجديد أثار نقاشاً واسعاً بين الكلاسيك والفلاسفة. حيث كانت هناك سلسلة من المحاضرات في أقسام الكلاسيك في الجامعات البريطانية، والعديد من ورش العمل المقبلة جرت جدولتها في نيويورك وريودي جانيرو. كذلك هناك عدد من الردود يجري إعدادها من جانب عدد من العلماء البارزين في الكلاسيك والفلسفة وعلم الموسيقا.‏

قصص مثيرة حول فك «أسرار أفلاطون» جذبت وبشكل مذهل اهتمام الميديا في الصحف والإذاعات ومنتديات الاون لاين في جميع أنحاء العالم. غير أن كل هذا النقاش ركز على رموز أفلاطون، لكنه تغافل عن الضربة القاصمة التي وُجهت إلى فلسفة ستراوس.‏

الى جانب ألبرت آينشتاين وتوماس مان وفلاديمير نابوكوف، كان ستراوس أحد أعظم اللاجئين المفكرين الذين أغنوا أمريكا في أواسط القرن الماضي. سمعة وتأثير ستراوس لمعت عندما أصبح من أعظم الفلاسفة المثيرين للجدل في العقد الماضي.‏

تلاميذ ستراوس عُرفوا من خلال الفلسفة وعلم السياسة، حيث نشروا أفكاره القائلة بأن السياسة والفلسفة السياسية هي مخادعة من حيث الجوهر. بعض هؤلاء جادل تحريرياً بأن «الخداع هو المبدأ في الحياة السياسية».‏

حروب ستراوس اندلعت في سلسلة من الكتب الحديثة. فمثلاً من اليسار نجد نيكولاس كسينوس Nicholas Xenos يهاجم ستراوس في كتابه «ارتداء الفضيلة: الكشف عن ليو ستراوس وبلاغة السياسة الخارجية الأمريكية»، يقابله رد من بيتر مينوويتز «Peter Minowitz « في كتاب «ستراوسفوبيا: دفاع عن ستراوس ضد Shadia Drury والنقاد الآخرين «. إن قراءة ستراوس للقدماء جرى التصدي لها من جانب إحدى محققات أفلاطون كاثرين زوكيرت «Catherine Zuckert « في كتاب «الحقيقة حول ليو ستراوس» وفي كتابات أخرى. لم يكن ستراوس أبداً بمثل تلك الشهرة.‏

إن أفق ستراوس ربما يلمع أكثر في المستقبل. انتقاداته لليبرالية جعلت منه الأكثر شهرة في الصين. وطبقاً لما ذكرته العديد من التقارير الصحفية، كان ستراوس حاضراً هناك «كونه قرأه الجميع» ومن مختلف الانتماءات والمشارب.‏

غير أن كل ذلك لم يوقف جامعة كامبرج من تقديس ستراوس. في دليل كامبرج لعام 2009 جاء ستراوس بين أهم الفلاسفة البارزين في القرن العشرين. واليوم استمر ستراوس محافظاً على سمعته بسبب استمرارية نشر أعماله من قبل مركز ستراوس في جامعة شيكاغو.‏

استمرت كامبرج في تأييدها لستراوس رغم سيل الانتقادات والشكوك من تيار الفلاسفة والكلاسيك. مايلز بيرنيايت Miles Burnyeat وهو كاتب شهير في « New York Review Of Books» قال بأن ستراوس هو «أسطورة بلا أسرار». أما بريان ليتر «Brian Leiter « أعلن بوضوح: أن «الستراوسية هي مرض الفلسفة الأمريكية».‏

قراءة ستراوس الخاصة لأفلاطون هي جوهر فلسفته. في كتابه «الاضطهاد وفن الكتابة» جادل ستراوس بأن العديد من الفلاسفة منذ اضطهاد سقراط وحتى الآن أخفوا رؤيتهم الحقيقية عن العلن. وهم باستعمالهم التلميحات والتناقضات المقصودة حجبوا بدهاء المعاني الأصلية لكتاباتهم.‏

إن هذه المسألة تختلف كلياً عن موضوع المفارقات الواردة في حوارات أفلاطون. كبار الباحثين في دراسات أفلاطون مثل « Paul Friedlander» و «Gregory Vlastos»جادلا بأن سقراط كان مخادعاً، وهو كثيراً ما أخفى وتجاهل المعنى الأصلي لكلماته. أما ستراوس فقد ذهب أبعد من ذلك حين ألغى ما اعتبرهُ القدماء والمحدثون على السواء مبادئ جوهرية للأفلاطونية.‏

كتب ستراوس ثمانية تعليقات حول حوارات أفلاطون وبقيت تلك التعليقات قدوة له في الكتابة الباطنية. أفلاطون يُفترض أنه اكتشف الصراع الأساسي بين الفلسفة والمجتمع. يقول ستراوس إن الفلسفة هي تساؤل دائم عما إذا كان المجتمع بنوعيه – الحديث واليوناني القديم- يحتاج دائماً لإثبات أساطيره.‏

يقول ستراوس» إن الفلسفة هي محاولة لاستبدال الرأي بالمعرفة، وأن الرأي هو العنصر الأساس في المدينة، ولذلك تكون الفلسفة مدمرة وبالتالي يجب على الفيلسوف أن يكتب بطريقة «يتظاهر» فيها بتطوير المدينة بدلاً من تحطيمها». هذا يفترض أن السرية هي طريقة الفيلسوف للتهرب من الاضطهاد في ظل الأنظمة القمعية، ولكن العديد من نقاد ستراوس رأوا شيئاً أكثر مكراً. ستراوس يبدو أيضاً اعتبر الكتابة السرية ضرورية لأن الناس العاديين كانوا يشكلون تهديداً. هم سوقيون وجهلة وغير قادرين على إدراك الفلسفة العليا. هذا الخط من التفكير هو في الأساس غير ديمقراطي وهو يجيز سياسة الكذب النبيل وقاد إلى اتهام ستراوس ومناصريه بأنهم طابور خامس للفاشية.‏

كل هذا خلق ضغطاً هائلاً على ستراوس ليوضح الفلسفة التدميرية التي وجدها مختبئة لدى أفلاطون. في تعليقات ستراوس وكتاباته مثل «أفلاطون الفارابي» و»ماهي الفلسفة السياسية؟» يرى ستراوس أن أفلاطون هو معاد ليس فقط للميتافيزيقا وإنما لكل النظرية الوضعية. الهدف النهائي للفلسفة هو نوع من الجهل السقراطي المدمر المقاوم إلى الأبد لأي رؤية ميتافيزيقية عميقة للعالم. وهكذا يكون ستراوس جعل من أفلاطون كائناً وجودياً أو فينومولوجياً.‏

أما نيل روبرتسون «Neil Robertson» فقد قام بتحليل تفسيرات ستراوس لأفلاطون واستنتج «أن ما يوضح هذه المقاومة للبروز والاختباء وراء الستار هو أن ستراوس يفترض ويطلب أيضاً من أفلاطونه تماسكاً فينومينولوجياً معاصراً... قراءة ستراوس لأفلاطون عُرضت لتصبح مشوشة منهجيا عبر الربط المباشر والقوي للنصوص الأفلاطونية بالإشكاليات المعاصرة».‏

قبل الآن لا أحد استطاع إثبات أن ستراوس كان خاطئاً. طريقته في القراءة بين السطور كانت فقهية ولا يمكن اختبارها. الستراوسية بإمكانها الرد دائماً بأن نقادها غير مؤهلين. هم ببساطة غير قادرين على النظر في الأعماق المحيرة التي وجدها ستراوس مخفية في أعمال أفلاطون.‏

في السنوات الأخيرة، بدأ الكلاسيك والفلاسفة يقبلون تدريجياً بالرؤية القديمة بأن أفلاطون يمتلك فعلاً معتقدات فيثاغورية لم يفصح عنها ابداً في حواراته. كتاب كين ساير «Ken Sayre « بعنوان «plato’s Late Ontology:A Riddle Resolved» كان معلماً بارزاً في دراسات أفلاطون المعاصرة. هو رأى أن ملامح معينة في «الفيليبوس» كشفت أن أفلاطون امتلك فلسفة رياضية مشتقة من فيثاغوروس – تماماً كما ذكر تلامذة أفلاطون الخاصين. كبار الباحثين أمثال «جون ديلون» و»جارلس خان» يوافقون على التباين في هذه الرؤية.‏

المؤرخون المستقلون ذوي الاطلاع الواسع طوروا جذرياً دراسة الرمزية القديمة. بعد اكتشاف أقدم الكتب الدينية لدى الاغريق « Derveni papyrus» طرح بيتر ستراك في «مولد الرمز» رؤية منقحة بأن الرموز كانت جوهرية للفلسفة القديمة والأدب. والآن من المقبول على نطاق واسع أن الرمزية كانت موضوعاً للتحقيقات في الحلقات التي عُقدت حول سقراط والتي برز منها أفلاطون.‏

اشتمل بحث «جاي كندي» على التقدم الحاصل في كل من هذين الجانبين بما يجعل بالإمكان إثبات خطأ ستراوس.‏

قد يقال إن ستراوس كان على نصف المسافة من الصواب. وكما في العديد من أتباع أفلاطون القدماء، هو شعر أن هناك عمقاً تحت المعنى الظاهري لكلمات أفلاطون. إحياء هذه الرؤى القديمة كان عملاً أحادياً وشجاعاً لوضعية وحرفية مناخ ما بعد الحرب التي سادت الأوساط الأكاديمية الأمريكية.‏

مع أن أفلاطون كان فعلاً كاتباً باطنياً، إلا أن ستراوس لم يتمكن أبداً من قراءة ما بين السطور. هو لم يفصح عن أي تأثير لنظرية فيثاغوروس الموسيقية أو الرياضية على أفلاطون. في الواقع، وصف ستراوس الفلسفة كرفض جوهري للاستسلام لسحر الرياضيات. هذه الكراهية للعلوم الوضعية جعلت ستراوس غير ملائم أبداً لفهم أفلاطون الذي هو أعظم أبطال الرياضيات في الفلسفة والتعليم. لم يتمكن ستراوس من رؤية رموز أفلاطون الموسيقية والرياضية.‏

«البناء الموسيقي في حوارات أفلاطون» هو نوع من المرشد لفك الشفرات. هو يعطي مدخلاً لطبيعة الرمزية القديمة ثم يتعقب النماذج الموسيقية عبر الحوارات العظيمة لأفلاطون في الحب «the Symposium « والدين «the Euthyphro». هو يعرض عدة خطوط لترسيخ الدليل لكل من الادعاءات الكبرى ويكشف الأشكال الموسيقية الأنيقة التي استعملها أفلاطون لتوحيد حواراته.‏

ذكر ستراوس أن أفلاطون كان نظرية مضادة، ولكن في الواقع أن الرموز تكشف تماماً أن ما قاله أتباع أفلاطون القدماء جرى ترميزه هناك كفلسفة فيثاغورية كاملة.‏

يمكن النظر إلى ستراوس الآن كشخصية انتقالية. إتقانه المطلق للفلسفة يثير الإعجاب دائماً. هو أثار سؤال الباطنية في عصر يسيطر فيه العلم، وحيث تُقرأ الحوارات حرفياً. الشك والسخرية التي تحمّلها لم تهز قناعته بوجود أعماق مجازية لامرئية في حوارات أفلاطون.‏

اتجاه ستراوس في «القراءة بين السطور» جرى تفنيده، كونه اتجاهاً شديد البداهة ولا يمكن التحكم به. هو ربما كان طريقة مضادة ومتعمدة. في المقابل، يمكن توضيح رموز أفلاطون عبر تطبيق الطرق المعيارية التي يستعملها باحثو الادب في دراسة كتّاب المجاز أمثال دانتي وسبنسر. أصبحنا ندرك الآن أن اتجاه ستراوس جعل أفلاطون مخطئاً.‏

Jay Kennedy عن مجلة الفلاسفة The Philosophers’ Magazine «TPM»‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية