تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الشاعر الإشكالي وتعدد القراءات

ملحق ثقافي
20/ 3 / 2012م
نذير جعفر:يعدّ أميّة بن أبي الصّلت «ت 5 هـ/ 626م» واحداً من شعراء العصر الجاهليّ البارزين، ممن أُثير وما زال يُثار حول حياته، وعقيدته، وشعره، ومنزلته،

نقاشٌ واسعٌ. فقد مثّل هذا الشاعر علامةً فارقةً في مشهد الشّعر الجاهليّ، وذلك بما حمله شعره على مستوى المضمون من أفكار تتناسب مع ما جاء في الكتب السماوية عن التّوحيد، والرّسل، والبعث، والحساب، والجنّة والنّار! وما حمله على مستوى الشّكل من ظواهر أسلوبيّة ولغويّة تتمثّل في توظيف الدّخيل، والموروث الدينيّ، والعناصر القصصيّة، والأسطوريّة.‏

وقد أسهمت ولادة هذا الشاعر في بيت عزٍّ، يجمع بين عراقة المحتد، والشّـعر والأدب، في تكوين ثقافته التي أغناها بأسفاره إلى الشّام، واليمن، والبحرين، وإقباله على طلب العلم، ومجالسة الرهبان والأحبار، وقراءة كتب الأولين. مما أكسب شعره ولغته طابعاً خاصاً، بدا من خلاله شاعراً متفرّداً يغرّد خارج السرب، ويعزف لحنه الذي لا يشبه سواه.‏

778\6.jpg‏

نسبه‏

هو أميّة بن أبي الصّلت بن أبي ربيعة بن عوْف بن عُقدةَ بن غيرة بن قسِي.‏

فهو من أسرة شاعرة عريقة المحتد، ومن أشراف ووجهاء قبيلة ثقيف، ويمت بصلة وثيقة إلى بيوتات قريش من جهة أمّه. ولعل التصحيف والاختلاف في نسبه، واختلاط رواية شعره، واضطراب أخباره، ونحل شعره، ليست سوى ظواهر عامّة في شعراء الجاهليّة وشعرهم، لبعد المقام، وتقادم الزمان، وتأخّر التدوين، وخطل النسّاخ من ناحية، ولهوىً ديني أو قبليّ أو سياسيّ من جهة ثانية. وهي لا تستدعي الشّك والارتياب به وبشعره كما ذهب طه حسين بل تستدعي الحيطة بالقدر الذي تعزّز فيه حقيقة وجوده، عبر ما رواه وتداوله عنه القدماء، والمحدثون، والمستشرقون، في مجمل كتب الأدب وتاريخه وفنونه على اختلاف آرائهم.‏

حياته وثقافته‏

نشأ أميّة في الطائف، التي سميّت بالحائط الذي بنوه حولها، وأطافوه بها تحصينا لها. وكان اسمها القديم: «وجّ»، وقيل: «وجّ» هو وادي الطائف. وهي في الجنوب الشرقي لمكة، وبينهما خمسة وسبعون ميلاً. وكانت بخضرة بساتينها، وعذوبة ينابيعها، ولطف هوائها، مصيف أهل مكّة ومتنزّههم. حتى إن اسمها اقترن بمكة فدعيتا بالقريتين، وعرفتا بالمكّتين. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في «سورة الزخرف»: «وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».‏

فقد تنقّل تاجراً ما بين الشام في عهد الغساسنة، واليمن في عهد الأحباش، والحيرة في عهد المناذرة، والبحرين التي أقام فيها ثماني سنين وهي تحت النفوذ الفارسي. فاكتسب خبرة حياتية، وثقافة دينيّة وأدبية واسعة، عبر تجواله في البوادي والحواضر المزدهرة، ومخالطته الفرس والأحباش، ومصاحبته رؤساء القوافل مثل أبي سفيان بن حرب، واتصاله بالوجهاء مثل عبد الله بن، وحواره مع الحنفاء، مثل: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل ومجالسته الرهبان في الأديرة على طريق الشام، واختلافه إلى الكنائس، والبيع، ومحاورته القسس والكهان والأحبار. واعتكافه، وتأمّله، وقراءته كتب الأولين: التوراة والإنجيل، ومعرفته بالسريانيّة والعبريّة والحبشيّة، أو اطلاعه عليها في أقلّ تقدير.‏

قال فيه ابن سلاّم الجمحي «139ـ 231هـ»: «وكان أميّة كثير العجائب يذكر في شعره خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شامّ أهل الكتاب» أي دنا منهم واطّلع على ديانتهم.‏

ووصفه الجاحظ «150 ـ 255 هـ» بقوله: «كان داهية من دواهي ثقيف، وثقيفٌ من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان همّ بادعاء النُّبوّة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبيّاً أو متنبّياً إذا اجتمعت له. نعم، وحتّى ترشّح لذلك بطلب الرِّوايات، ودرس الكتب. وقد بان عند العرب علاّمة، ومعروفاً بالجولان في البلاد، راويةً».‏

ديانته‏

اختلف القدماء والمحدثون في ديانة أمية، فمنهم من أشار إلى تحنّفه، ومنهم من قال بتهوّده ومنهم من دافع عن نصرانيته أو شكّك فيها. ومعظم هذه الآراء لا تستند إلى وثيقة نصيّة، إنما ُتستنبط مما ورد في روايات الإخباريين، أو مما ورد من إشارات دينية في شعر أميّة تتعلّق بالتوحيد، وبعقيدته الحنيفية، وبقصّة الخلق، والبعث والحساب، والجنّة والنار، وسواها. أو تنساق وراء هوى أصحابها الديني أو السياسي.‏

والمرجّح أن أمية كان من الحنفاء العرب، الذين رغبوا عن عبادة الأوثان قبل البعثة، وحرّموا الخمر، ولبسوا المسوح تعبّداً، وبدؤوا يلتمسون حقيقة دينهم من بين الأديان المنتشرة في شبه الجزيرة العربية، ومنها اليهوديّة والمسيحيّة على وجه خاص، فاهتدى بعضهم إلى أحدها، وبقي بعضهم الآخر حائراً قلقاً لا يجد ضالته! وإلى ذلك يشير الأصبهاني بقوله: «قال الزُّبير وحدّثني عمّي مصعب عن مصعب بن عثمان قال: كان أمية بن أبي الصّلت قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبّداً، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرّم الخمر وشكّ في الأوثان، وكان محقِّقاً، والتمس الدّين وطمع في النبّوّة، لأنه قرأ في الكتب أنّ نبيّاً يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكونه».‏

شعره ومكانته‏

شعر أميّة بن أبي الصّلت الصحيح النسبة، وغير المختلط أو المنحول، صورة متفرّدة عن عصره المزدهر، وبيئته المتفتّحة، وشخصيّته المثقّفة، القلقة، وعقيدته الراغبة عن الأوثان. فهو يحفل بتوظيف الموروث الديني مثل قصّة الخلق والتكوين، والطوفان، والحساب والعقاب، والجنّة والنار، وفلسفة الموت وما بعده. كما يحفل بتصوير الأحداث التاريخية، وأوجه الصراع السياسي والقبلي، والمعتقدات الشعبيّة والأساطير المتعلّقة بالجنّ، والملائكة، والحيوانات المقدّسة. ويتشابه مع أغراض الشعر الجاهلي على مستوى الموضوعات في: المديح، والفخر، والحكمة، والعتاب. وعلى مسـتوى الأساليب الفنيّة في: الصورة الشعريّة، والموسيقا، والقالب القصصي خاصة.‏

وصنّف بلاشير آثار أميّة الشعريّة إلى فئتين: تتضمّن الأولى منهما بعض الأشعار ذات الطابع البدوي التقليدي مثل قصيدته في مديح عبد الله بن جُدعان، وقصيدته في رثاء قتلى بدر. وتتضمّن الثانية «طائفة من القصائد والمقطوعات ذات أسلوب تافه أخرق محشوّة بالغريب»، على حدّ تعبيره! وقد حذا حذو بلاشير عدد من دارسي تاريخ الأدب المعاصرين مثل شوقي ضيف، وعبد المنعم خفاجة، فكرّروا ما قاله من دون نقاش له أو تحفّظ عليه. فالمقطوعات التي يوصف أسلوبها بالأخرق والتافه وبأنها محشوّة بالغريب، ومنها قصيدته في ذكر الهدهد وقنزعته، وقصيدته في ذكر قصة الديك والغراب، وتأملاته في عظمة خالق التماسيح والفيلة، واستخدامه للألفاظ الغريبة مثل: الصاقورة، والحاقورة، والثُّغرور، والسليطط، والساهور، هي التي تكشف كما يرى الباحث عن فرادته، وثقافته الأسطورية، واللغوية، وحسن توظيفه لها.‏

وقد أشار ابن سلاّم « 139ـ231 هـ» إلى مكانة أميّة الشعرية في ثقيف واصفاً إياه بأنه أشعرهم. وجاء في «الأغاني»: «قال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب، ثم عبدُ القيس، ثم ثَقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصّلت. وقال يحيى بن محمّد قال الكميت: أميّة أشعر الناس، قال كما قلنا، ولم نقل كما قال».‏

لغته‏

يشير ابن قتيبة «213 ـ 276 هـ» ، إلى أن علماء العربية لا يرون في شعر أميّة حجّة في اللغة، لاستخدامه كلمات غريبة لا تعرفها العرب. لكن هذا الزعم لم يمنع القدماء ومنهم: الجاحظ «163ـ 255هـ» ، وابن دريد»223ـ321هـ»، وابن جني «ت392هـ» وأحمد بن فارس «329ـ 395هـ» وابن منظور «ت 711هـ/1311م» من الاحتجاج بشعره في مسائل لغوية تتصل بمعاني الألفاظ ودلالتها وأصواتها، أو في مسائل نحوية وصرفية. بل إن ابن جنّيّ يذهب إلى القول في سياق تعليقه على ما جاء به ابن أحمر الباهلي من الغريب في «باب الشيء يُسمع من العربي الفصيح، لا يسمع من غيره»، بوجوب قبول ما ورد من ألفاظ غريبة في شعر أميّة بن أبي الصّلت حتّى لو لم يأت بها أحد قبله، معلّلاً ذلك بأنه إما أن يكون قد أخذها عمن ينطق بلغة قديمة لم يُشارك في سماع ذلك منه، وإما أن يكون قد ارتجلها. فالأعرابي «إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به».‏

وقد التفت مؤلفو المعاجم وكتب الأدب إلى لغة أميّة واستهوتهم الكلمات الدخيلة في شعره، واكتفى بعضهم بوصفها بالغرابة من دون أن يذكر اللغة التي استعيرت منها، كقول ابن قتيبة: «كان يحكي في شعره قصص الأنبياء ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدّمة وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب». فيما كان بعضهم الآخر يذكر اللغة التي استعيرت منها تلك الألفاظ سواء أكانت من السريانية، أم العبريّة، أم الفارسيّة، كقول ابن دريد: «837 ـ933م»: «والسّهر بالسريانية القمر.. فأمّا الساهور فقد ذكره أميّة بن أبي الصّلت وزعموا أنه القمر. وقال قوم دارة القمر، وكان أميّة يستعمل السريانيّة في شعره كثيرا لأنه قرأ الكتب».‏

إن لغة أميّة بن أبي الصّلت بما اشتملت عليه من خصوصية على مستوى المفردات الأصيلة والدخيلة، والتراكيب والصور، والظواهر النحوية والصرفية والصوتيّة، وما تحيل عليه في سياقها من تطوّر دلالي، وتشابه أو تماثل مع اللغات السّاميّة، تستحق أن تكون محور بحث لغوي مقارن مستقل.‏

حذفت المراجع لضرورات النشر‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية