|
كتب وفي رحلته الممتعة والمضمونة التي توفرها المفاصل الخمسة لهذا البحث الأكاديمي الرصين، الذي يسلط الأضواء على «فن الخيانات الجميلة» ابتداء من مرحلة ما قبل تاريخ الترجمة وصولاً إلى مرحلة نظرية الترجمة في القرن العشرين. ويهدف الكاتب حسب ما جاء على غلاف كتابه، إلى إعداد إسطوغرافيا للترجمة بما هي ممارسة كونية وذات طابع دينامي عبرت العصور إلينا ومازلت تنهض بدورها في تحقيق التواصل وتناقل المعرفة، ومن خلال ذلك، استهداف المسار النظري الذي واكبها منذ لحظة الإرهاص إلى لحظة التبلور، وبفضل المقاربة التاريخية الوصفية التي اعتمدها الباحث سعياً للإجابة عن سؤال إشكالي شغل ذائقته على امتداد تضاعيف هذا الكتاب وهو «كيف يكون التاريخ منجبناً للنظريات. يمكن الجزم بكل اطمئنان، أن هذا البحث بوسعه أنه يمكن القارئ العربي من «تكوين فكرة اشتمالية عن المسار التاريخي الذي قطعته الترجمة بوصفها ضرورة حضارية وتواصلية، وفي نفس الوقت يتيح له الاطلاع بطريقة متدرجة وسلسة على عصارة النظريات الترجمية التي انبثقت في هذا أو ذاك من العالم ويضع أمامه صورة عن السياقات والظرفيات السوسيو ثقافية التي كانت وراء إنتاج أهم التصورات بخصوص الترجمة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن العمل الجديد هو الثامن ضمن الاتجاه النقدي متعدد الأطياف للدكتور حسن بحراوي مثل بنية الشكل الروائي، الفضاء، الزمن الشخصية. والمتصفح للكتاب «أبراج بابل، شعرية الترجمة من التاريخ إلى النظرية لمؤلفه حسن بحراوي الصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يجده يعالج قضية الترجمة باعتبارها عملاً نسقياً لا تقل أهميته عن باقي العلوم الإنسانية الأخرى كالنقد والأدب منطلقاً في ذلك من إشكالية علمية مؤداها ضرورة تشكيل تاريخ تقريبي لشعرية الترجمة، يأخذ طابعاً إجرائياً وظيفياً يبدأ من مرحلة ما قبل تاريخها وصولاً إلى بروز وتبلور ضروب متباينة من الوعي بل متكاملة على مستوى التفكير في ممارسة الترجمة، وذلك بعدما ساد التفكير السلبي عن الترجمة باعتبارها عملاً دونياً وثانوياً لا تتعدى مهمته النقل إلى الإبداع والجدة، هذا فضلاً عن النظرة التجزيئية التي تعزل الممارسة الترجمية عن محطيها الاجتماعي والثقافي.. وقبل أن ندخل في أهم المحطات التي توقف عندها الكتاب، يلفتنا العنوان «أبراج بابل،، باعتباره مؤشراً يضيء لنا أنه أمام عمل تاريخي خاص بالحضارة البابلية، التي هي من أهم الحضارات الشرقية، والأهم من ذلك العمران المتمثل في الأبراج، لكن موضع الكتاب هو شعرية الزمن من التاريخ إلى النظرية، فيتضح أن الترجمة هو الموضوع الأساس للكتاب، ليس باعتباره عملية آلية ميكانيكية من لغة إلى أخرى، وإنما باعتبارها عملية إبداعية لا تخلو من مياسم الجمال والشعرية والجدة والابتكار وما تحمله من رؤية للعالم شأنها شأن الإبداع الفني إن لم نقل إنها تتجاوزه لجمعها بين الحسنيين، البعد الجمالي التخيلي، ما دامت عملية إبداع ثانٍ لنص مبدع بلغة معينة لها أساليبها وتراكيبها الخاصة إلى لغة ثانية تشف عنها في التعابير والأساليب والتراكيب، ما يجعل المترجم يحافظ على نفس المعاني ونفس التأثير باختيار التراكيب والصيغ والأساليب المناسبة، والبعد النقدي الإجرائي لما تتطلبه من إعمال الفكر ورجحان العقل، في الوعي بمكامن الجودة والرداءة في كلا اللغتين، وإلى جانب هذه الرؤية التي يقدمها العنوان الفرعي عن الترجمة، بالتركيز على شعريتها وأبعادها الجمالية وصفاتها التعبيرية، يوضح لنا المسار المنهجي للكتاب من التاريخ إلى النظرية الذي يعتمد التسلسل التاريخي خلال أهم المحطات في تاريخ الترجمة ما قبل الميلاد (الإغريق - الفراعنة) وصولاً إلى تشييد صرح نظري متكامل عنها «الترجمة أواخر القرن العشرين، وتبرز أهمية المنهج التاريخي في معالجة قضية الترجمة في تتبع مختلف المراحل التي قطعتها، في إطار التأثر والتأثير، وقد اهتم المؤلف بمحطات رئيسة ثلاث، مرحلة ما قبل تاريخ الترجمة ثم الوقوف في هذه المرحلة عند عصور الترجمة في العصور القديمة، الترجمة عند قدماء المصريين، الترجمة عند اليونان، والجامع بين العملية الترجمية في هذه المرحلة، رغم اختلاف البيئات والأزمنة أنها كانت تتم بطريقة حدسية ولأغراض تواصلية نفعية أو دينية ومرحلة تاريخ ما قبل نظرية الترجمة، وفي هذه المرحلة سعى المؤلف إلى تتبع تلك الجهود التي بذلها العرب خاصة، واللاتينيون في نقل وترجمة ثقافة الأمم الأخرى وخاصة الإغريق والفرس، الشيء الذي نجم عنه بروز مدارس خاصة بالترجمة، ولكن الدافع كان الحاجة إلى معرفة لغة الأمم الأخرى للوقوف عند طرائق تفكيرهم أو للتبادل السياسي معهم أو للاحتياط منهم والاحتراز من مكرهم. والمرحلة الثالثة، تاريخ نظرية الترجمة، ويقسم إلى المواضيع التالية: مترجمو العصر الوسيط واقتصرت فيه الترجمة على الترجمة الحرفية للنص الديني، ومترجمو عصر النهضة، وشهدت هذه المرحلة حركة لافتة نظراً لتأثرها بالتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشها العصر، وعرفت انتشاراً أوسع للأعمال الشعرية والإبداعية والفنية ترجمة ودراسة، وخصوصاً بعد تأثر المترجمين بنظريات الجمال والفن وبعض المدارس الفنية، علاوة على بروز تيارات ومدارس خاصة بالترجمة لكل منها أسلوبه الخاص (الحفاظ على الأصل، تجاوز الأصل، النقل). أما لحظة التأسيس فشكلت قفزة نوعية في حركة الترجمة، استناداً إلى تلك الجهود الفردية لكثير من الرواد والمفكرين الذين صرفوا جهودهم رغم اختلاف التخصصات، للبحث في الترجمة باعتبارها عملاً نسقياً ذا ضوابط وخصوصيات وشروط إبداعية أكثر من مجرد الاعتقاد بفكرة النقل والتحويل. إن هذا الكتاب من الأهمية بمكان لجهة تشكيل رؤية متكاملة من شأنها تأسيس وعي نظري ممتد الأطراف ومتكامل الرؤى، ينقل الترجمة من رؤية الجمود إلى قراءة النسق التي تجعل منها عملاً منظماً محكم القواعد. |
|