تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الخواطر... أسراب سنونو وكاتبها... صياد ماهر يتقن اصطيادها

كتب
الأربعاء 31-7-2013
اختار الدكتور مازن المبارك لكتابه عنوان«خواطر مضيئة» كما يقول في مقدمته، لأن الخاطرة التي يكتبها الكاتب تختلف عن المقالة التي يهيئ نفسه استعداداً وإعداداً وتفكيراً

وإنشاء يقول كتابة الخاطرة تجربة جديدة مررت بها وتعلمت منها، وأدركت ما يعانيه السادة رؤساء تحرير الصحف، لقد كنت أظنهم كتاب مقالات مثلنا، يكتب أحدهم المقالة في يوم أو يومين، وقد يكتبها في أسبوع، كنت أقرأ مقالاتهم في افتتاحيات صحفهم فلا أتجاوزها إليهم ولا أفكر بهم أنفسهم ولا يخطر ببالي من وراءها وما وراءها، أما الآن وبعد تجربتي في تسجيل هذه الخواطر، فقد أصبحت أعرف معاناتهم وأعرف ما يبذلون من جهد ووقت وسهر وإرهاق حتى تكون كلماتهم بين أيدينا.‏

إن الافتتاحية ليست قطعة إنشاء ينمق أسلوبها ويحكم نسجها ولكنها الموضوع الأهم والفكر الأبرز والكلمة الأشد أسراروالأحداث ولادة... وما أشبه كاتب الخواطر بصياد ماهر يتقن إلقاء الشبكة في اللحظة المناسبة، وما أشبه الخواطر التي يستعرضها بأسراب السنونو، تمر موجات وموجات أمام ناظريه مبعثرة مسرعة منطلقة شرقاً وغرباً، تعلو وتنخفض ولا تمضي لحظات حتى تختفي لتعود السماء أمامه صفحة بيضاء تذكره بالصفحة البيضاء التي أمامه والتي كان عليه أن يتصيد فكرة أو خاطرة من الموجات التي سنحت ليجعلها كلمات يسود بها بياض صفحته، كذلك كانت حالتي حين التزمت لصديق أن أقدم له ثلاثين كلمة على مدى شهر واحد هو شهر رمضان لينشرها في الملحق الثقافي الذي تصدره مؤسسة الخليج بالشارقة وتوزعه في رمضان مع العدد اليومي من صحيفة الخليج... هذه التجربة جعلتني أدرك الفرق بين كاتب مقالة يكتبها على ما يريد من وقت وأناة، وكاتب الخاطرة الذي يحاصره الموضوع والوقت.‏

ويرى بعد ذلك أن الخاطرة هي كالسنونو، مرة شرقية ومرة غربية، مرة حلوة ومرة مُرة، تاريخ مضى، ومرة لحظة حاضرة وأنت تصطاد منها ما تراه جديراً بالصيد ومناسباً للطبق اليومي الذي ينتظره القراء.‏

إنها ليست في موضوع واحد ولا يصلح لها الدسم الذي يلحق عسر الهضم، إنها الشطيرة التي يؤثرها جيل هذا العصر، والتي تلائم جو رمضان ومزاج الصائمين، لذلك كانت يوم نشرت تحمل اسم «شطائر» وكانت كل فكرة أو خاطرة منها تضيء جانباً من جوانب حياتنا التاريخية أو الاجتماعية أو اللغوية لذلك كانت «خواطر مضيئة» وتحت عنوان«لغتنا» نقتطف » كل دعوة إلى بناء مجتمع عربي متماسك مؤهل للتقدم تبقى ناقصة إذا لم يكن من وسائلها صيانة اللغة والعمل على نمائها وحفظ وحدتها واللغة اليوم معقل من أواخر معاقل الأمة التي يجب أن تتمسك بها تمسكها بوحدتها، واللغة لا توحد الأمة إلا إذا كانت هي موحدة في عالم الناطقين بها، والعربية موحدة وموحدة، هكذا كانت وهكذا يجب أن تكون...‏

لكن العرب في جاهليتهم قبائل متفرقة، وكانت لغتهم لهجات متفاوتة ثم اجتمعوا على لغة واحدة استعلت على لهجاتهم، عرفوها في أسواقهم الأدبية، وعرفوا في القرآن الكريم مثلها الأعلى، وعرفوا معها وحدتهم في أمة... وكانت لغتهم في جاهليتهم صورة لهم، فيها إباؤهم وشيمهم وفيها كثير من صلابتهم ووضوح صحرائهم وفيها إيجاز يصور حياتهم ويقول:‏

عجيب أمرنا اليوم نرفع شعارات القومية، ونسمع دعوات الوحدة، وندعي الاعتراز باللغة ثم نعزل العلم في الجامعات من لغتناونعزل من المعلم..‏

إن مدارسنا تعلم اللغة لأداء امتحان، لا لخوض حياة ولا لكتابة بحث، ولا لبناء شخصية وتوصية سلوك ولا لتكون نمطاً عقلياً يوحد الفكر ليصل إلى وحدة الأمة.‏

لو أنصف العرب لأقاموا في عواصمهم محاكم لكل من يفرط بلغتنا، لأن التفريط باللغة تفريط بكرامة الناطقين بها، ولأن التفريط باللغة لا يقل جرماً عن التفريط بالأرض وبتراب الوطن إن لم يكن أكبر مسؤولية وجرماً، لأن الأرض إذا استلبت يمكن أن تستعاد وأن تسترد، أما اللغة فإنها إذا ضاعت فهيهات أن تعود، ولأنها إذا ضاعت ضاعت الأمة معها... لو عرف العرب قيمة لغتهم لعضوا عليها بالنواجذ،فهم بها وحدها عرب، وهي اللغة الباقية على الدهر المتعالية على الزمان.‏

إن العربية مواتية من جانبها اللغوي وخصائصها الذاتية والمحافظة عليها واجب قومي، وفرض ديني لأنهم معرفة الإسلام وإقامة الصلاة إلا بها، ولايفرط بها إلا جاهل أو شعوبي حاقد أو عدو للعروبة والإسلام.‏

وما دمنا في شهر رمضان الكريم، نقتطف من باب وعاد رمضان هذه الخاطرة : عاد رمضان اليوم كما يعود النسغ أو الماء إلى الشجرة وكما يعود الغيث إلى التربة، وكما يعود الشتاء بخيره، وكما يعود الربيع بزهره، عاد رمضان بما فيه من خير وسكينة.. عاد ليجعل ظلام الليل مضيئاً يشع بنور العبادة والصلاة والتهجد والقرآن عاد كما يعود الشتاء ليروي ما جف ويبس من الأغصان، عاد ليذكر بالتسامح والعطف والحنان،، عاد ليهب النفوس ما تحتاج إليه من سكينة واطمئنان، عاد ليعلم الصبر والصمود والثبات في قمع العدوان.‏

لقد كانت أيام رمضان ملازمة في تاريخ أمتنا للجهاد مقترنة بالتوفيق والنصر، فهل يذكرنا بتلك الصفحات الغراء، هل يبعث في نفوسنا الأمل على القدرة والعزيمة على العمل وهل تحيي لياليه موات نفوسنا، وهل يبدو نور روحانيتها ما خيم عليها من ظلام... لعلك يا رمضان تعيدنا في لحظة صدق إلى ربنا وتصحح صلتنا به سبحانه لنعود مؤمنين بأنه لا ملجأ لنا إلا إليه، ولا نصر إلا منه، فلا نخاف سواه ونرجو سواه..‏

هل لك يا رمضان أن تكون مدرسة لتغيير نفوسنا وأفكارنا كما غيرت كثيراً من عاداتنا وسلوكنا..‏

تحت عنوان صور حضارية من حياة ابن عساكر وكتابه« تاريخ مدينة دمشق» يقول إن في كثير من أخبار الرجال ومرويات كتب التاريخ أخباراً وروايات تعد من ظواهر الحضارة وصورها، ولعلنا لا نغلو إذا قلنا، إن بعض تلك الظواهر الحضارية الرفيعة لتدل على بعض ما نفتقده اليوم، ونحن نعيش في القرن الخامس عشر للهجرة والقرن العشرين للميلاد، بل نعيش في عصر تخدرنا فيه الشعارات وتقنعنا فيه الدعاوى والدعايات، والذي يتابع القراءة في تاريخ ابن عساكر يرى صورة لتاريخ حضاري إسلامي موسوعي ينظر إليها القارئ من خلال منظار ابن عساكر الدمشقي، فإذا هي صورة تغطي مساحة واسعة من العالم العربي والإسلامي في ذلك العصر، وتعبر بوضوح عن تلك الحياة الواسعة بأخطارها الغزيرة بكلماتها، الغنية بما فيها من علم وأدب وشعر، المعتزة بقيمها تخوض الغمار وتمر بالأزمات وتعرف الانحرافات ولكنها تبقى منتصرة في صراعها متمسكة بوحدتها مستعلية بربها.‏

هذه الأخبار وهذه الصورة تمتع القارئ وتفيده، ،فيها قبس من نور يبعث على الرجاء والأمل وسط ما تحيطنا به حياة اليوم من بأس مظلم وقنوط قاتل.‏

الكتاب: خواطر مضيئة - المؤلف: الدكتور مازن مبارك - مطبوعات دار البشائر - عدد الصفحات 144صفحة من القطع الكبير‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية