تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كتاب...«الوثن»..قــــراءة فــــــــي دور الثقافـــــة والمثقفيــــن..

ثقافة
الخميس 5-12-2019
هفاف ميهوب

«الوثن.. فسحة للكلماتِ في راهنٍ بصفاته وأسمائه، وخيالٌ يُضفي بظلالهِ على واقعٍ مُثخن بالجراح. شفافية أحلامٍ تعانق بواعث الأمل، ووجع على مذابح الأيام، لم يجد عزاء له سوى نزيف الكلمة».

مقدمةٌ.. لم يهدف منها الكاتب والروائي الجزائري «مصطفى بوغازي» استدعاء القارئ ليتبين حقيقة واقعه فقط، بل ليتبيَّن أيضاً وجعه في ظلِّ حياةٍ، باتت محكومة بأفكار أصحاب الأفكار والأفعال الصنمية.. المتسلقون والانتهازيون، ممن اضَّروه كما ذاك الفنانُ الذي طُلبَ منه نحت الصخر لصنعِ تمثالٍ يخلِّدُهم.. اضطرُّوه للنحت في الكلمات، مشكِّلاً بنية روائية تُسقطُ جميع الأوثان القابضة على أرزاق الإنسان وقيمه الإنسانية..‏

«سأنحتهُ بسخاءٍ من الكراهية، وسترتسم على قسمات وجهه أوجاع الكادحين ومن كابدوا الوجع وشظف العيش، سأعيد إلى نظراته التي تُوهم بالحزمِ والعزم، حقيقتها المتوارية، فهي مجرد نظرات انتقامٍ وحقد من كلّ شيء..».‏

لاشكَّ أنه تفكيرٌ، وإن بدا للكثيرين بأنه بدائي في زمنٍ تكمن مهمة الكاتب فيه بنشرِ الوعي التنويري، إلا أنه بالنسبة لبطل الرواية كان جداً منطقيا, ذلك أنه «لم يعد للوعي والقيم مكان، بل للمصالح والمكاسب النرجسية، لدى أصحاب المناصب والمسؤولية».‏

هذا ما رآه الكاتب وما تناوله في «الوثن» الرواية الاجتماعية- السياسية- التاريخية، التي أشار فيها إلى ما اقترفه الدمويون بحقِّ الإنسان المضطهد والأعزل من أيِّ سلاح. الإنسان الذي أسقط همجيَّتهم على وعيه وثقافته.. الصحفي الذي لم يكن يملك إلا قلمه ومداد التنوير والمعرفة عندما جره الإرهابيون بعنفٍ وذبحوه، وسحلوهُ في الباحة وهو يتخبط في دمائه، يتقطع شخيره مع شهقات الموت الأخيرة، فينكلوا بجثته، ويفصلوا رأسه عن جسده»..‏

هذا مارآه من بشاعة اقترافاتِ من شحنوا الأبرياء بالخوف والرغبة بالانتقام من قاتلي الحياة وأخلاقها ووعيها.. أولئك الذي سعى بقلمهِ لمطاردتهم والقصاص منهم. تماماً، كما سعى كلّ أبناءِ وطنه «لمطاردة الحقد والوحشية في قلوب الدمويين الذين حولوا حياتهم وواقعهم إلى جحيم»..‏

إنه ماتدور حوله الرواية.. «آلامُ المفجوعين والموجوعين.. صور الضحايا وأجواء الرعب.. الأنانية والانتهازية والتملُّق المقيت.. قتلة وخونة يعودون إلى الواجهة.. فسادٌ ورشاوى.. إهمال للفنون والثقافات الإبداعية.. المحسوبية والنعرة القبلية.. الانحطاط الأخلاقي والسياسي..‏

كل هذا، و«المشاهد البائسة على قنوات إعلام مستلب، تُشارك في تضليل الرأي العام، إلى درجة أنه أصبح مرادفاً لكلمة غباء.. مواقف غاية في الانحطاط..».‏

باختصار.. هي رواية لاتكتفي بالكشفِ عما آلت إليه مجتمعاتنا من جهلٍ وانحطاطٍ في ظلّ تفاقم أعداد الانتهازيين والفاسدين أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً، بل هي أيضاً، تعرِّي الخونة والجشعين المتاجرين بكلِّ شيء من أجلِ مصالحها ومكاسبها.‏

هي أيضاً، تصفعُ الإعلام اللاأخلاقي في سعيه لتدمير المجتمعات، وتشويه الحقائق، وتضليل المشاهد.‏

الأهم، وهو أكثر ما تناوله الكاتب، دور المثقفين أمام ما نعيشه من أزماتٍ وخيباتٍ وانتكاساتٍ، بدل أن يكونوا فيها لسان حال المجتمع وصوت ضميره، مثلما قلم الحقِّ الذي يدافع عنه ويرتقي بمصيره. بدل أن يكونوا كذلك، كانوا متآمرين ومنافقين، ارتضوا الخنوع بلا رجوع عن عبادة وتقديس «الوثن». الإله الذي يتجسّد في حاكمٍ أو مطمعٍ أو سواهما من الأصنام التي باتت تعبد في زمن تكاثرت أوثانه.‏

لاشك أنه الواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا وصوّره «بوغازي» بالكلمات، وهي كوابيس الخوف والوجع والقهر التي باتت تتراءى لكل الحالمين بإشراقة وجدوى الحياة...‏

في النهاية، ورغم نقمة الكلمات التي توالت في رواية «بوغازي» ساخطة، وساخرة وكاشفة ولاعنة كل صامتٍ عن الحقِّ ووعيده، يبقى الإبداعُ ونشيدهُ: «سقط الوثن، نريدُ أن ينهض الوطن»..‏

يبقى أن نقول: «مصطفى بوغازي» ناشرٌ وأديب وإعلامي جزائري. من أعماله القصصية: «أحلام الفجر الكاذب».. الشعرية: «تأوهات على جدار النرجس».. الروائية: «رماد الذاكرة المنسية» و«امرأة على قيد سراب» و«الوثن» وغيرهم من الدراسات النقدية والفكرية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية