|
تشرين التحرير وإذا كانت الحرب قد حفلت بالكثير من المآثر والمعارك التي يشهد التاريخ والعالم بعظمة وبسالة المقاتل السوري خلال أحداثها، فإن لتحريرمرصد جبل الشيخ وقعاً خاصاً في ذاكرة الحرب ومجرياتها، لما لهذا التحرير من دور مهم برفع الروح المعنوية عند مقاتلينا وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وسلاحهم وقيادتهم وخاصة أن تحرير المرصد قد تم في الساعات الأولى من الحرب، ماصعق العدو وأدهش العالم بأسره، فالناظر إلى قمم جبل الشيخ والعارف بوعورته وشدة انحداره وصخوره والتحصينات التي أقامها العدو، يلغي أي احتمال في إمكانية نجاح الهجوم مهما بلغ حجم القوة المهاجمة أو ازدادت كفاءتها لكنه جيش الأسود الذي قهر الصعاب وحقق المستحيل وسكن كما النسور قمم الجبال. اللواء محمود محمد معلا ابن محافظة اللاذقية، قرية بسطوير بالقطيلبية صاحب الخبرة الميدانية وهو الذي تسلسل في مهامه من قائد فصيلة إلى قائد سرية فرئيس أركان كتيبة، ثم قائد كتيبة فرئيس أركان فوج للقوات الخاصة ورئيس أركان الحرس الجمهوري، فنائب لقائد الحرس الجمهوري ثم قائدا للمنطقة الشمالية، يروي ذكريات العزة والفخار التي حملها معه من تشرين وهو قائد مجموعة اقتحام المرصد فيقول: يمكن تقسيم حرب تشرين التحريرية إلى أربعة أقسام: فترة التحضير للحرب «بجزأيها العلني والسري» ثم فترة الانتقال إلى منطقة التحشد فمرحلة خوض الحرب ومدتها 22 يوماً فحرب الاستنزاف . معسكر تحضيري أما فترة التحضير فيقول: إنتسبت إلى الكلية الحربية عام 1968 وتخرجت بعد عام ونصف برتبة ملازم لألتحق بكتيبة المظلات في القوات الخاصة حيث انتقلت الكتيبة عام 1970 إلى منطقة نهر البارد في محافظة حماة لتنفيذ معسكر تدريبي تحضيراً لحرب تشرين، حيث كان الهدف من المعسكر تدريب المقاتلين تدريباً مميزاً كقوات إنزال وقفز مظلي، إذ اعتبرت كتيبة المظلات الكتيبة الرائدة ضمن القوات الخاصة، كونها أول كتيبة مظلات تشكل في صفوف الجيش العربي السوري منذ تأسيسه، ليبدأ التدريب الفعلي المكثف على الوحدات، مع التركيز على اللياقة البدنية للمقاتل إضافة للرمي العادي بالرصاص الحي والغريزي جنباً إلى جنب مع التكتيك للأفراد والضباط على السواء إضافة لانتقاء هدف تم تحديده في أعلى قمة في جبال الساحل تطل على سهل الغاب، وهي شبيهة بموقع جبل الشيخ وتقاربه بالارتفاع ووعورة المسالك المؤدية للهدف.. وكان المطلوب وقتها من كل ضابط وفصيلته أو سريته أن ينفذ غارة حقيقية على هذا الهدف يومياً وضمن زمن محدد إذ علينا أن نقطع مسافة 7كم بنصف ساعة بلباس الميدان الكامل مع الأسلحة والذخائر والطعام واستمر المعسكر طيلة أربعة أشهر.. تدريب ميداني انتقلت الكتيبة بعدها إلى منطقة عرنة عند السفوح الجنوبية لجبل حرمون مع وضع برنامج تدريبي خاص بالمنطقة يهدف للتعرف على جغرافيتها وتضاريسها ودراسة الطرق المؤدية إلى الأراضي اللبنانية والمرصد « المراد تحريره»، يستمر هذا المعسكر شهراً كاملاً نفذ خلاله كل ضابط دورية استطلاعية « نهارية وليلية» وسط متابعة من قيادة القوات الخاصة وهيئة التدريب والعمليات، وفي نهاية المعسكر بدأت وحدات الاحتياط المدني بالالتحاق بالكتيبة لسد النقص في بعض الاختصاصات والأسلحة التي تسلمنا أنواعاً جديدة منها كالصواريخ 107، ليصار إلى التدريب عليها وقد تم استيعابها والتمكن من التعامل معها خلال 3 أيام فقط، مايدل على قدرة المقاتل السوري للتعامل مع كافة مستجدات الحرب وأسلحتها ومتطلباتها. إعلان القرار وفي مساء الخميس 4 تشرين الأول كلفت بتنفيذ دورية استطلاع ليلية وتم تزويدنا بكاميرات حرارية لتصوير المرصد ليلاً بغية التدقيق في بعض التفاصيل غير المعلومة من قبل القيادة، وبالفعل أمضينا الليل نصور ونرصد تحركات العدو، لنعود إلى موقعنا في عرنة يوم الجمعة الساعة 10 صباحاً فوجدنا حركة غير طبيعية حيث «نصبت» خيمة كبيرة وحولها حراسة مشددة، وهنا بدأت مرحلة التحضير المعلن للحرب، فداخل الخيمة يتواجد ضباط من القيادة ومن هيئة التدريب وقائد القوات الخاصة الذي أفصح خلال الاجتماع عن موعد الحرب قائلاً: قررت القيادة تحرير هضبة الجولان ومهمة كتيبة المظلات مهاجمة مرصد جبل الشيخ وتحريره وستكون كتيبتكم طليعة الجيش ما يعني أن النجاح بالمهمة مطلوب مهما كان الثمن ليبدأ على الفور رسم الخطة... خطة محكمة وفق الخطة.. قسمت الكتيبة إلى ست مجموعات تضم كل مجموعة 100مقاتل يقودهم ضابط مهمتها التسلل تحت ستار الليل بشكل سري للغاية، بحيث تصل كل المجموعات فجراً إلى محيط المرصد وتعمل على تمويه نفسها ومقاتليها بالصخور والتضاريس المتواجدة بحيث لايستطيع أحد رصدها وتلتزم السكون والتخفي حتى إشارة بدء الهجوم التي كان متفقاً عليها، وهي رؤية نسورنا فوق المرصد، إضافة لإشارات متعارف عليها بين قادة العمليات، وأربع مجموعات بقوام 20 مقاتلاً يتم إنزالهم بالحوامات مهمتهم قطع طرق إمداد العدو والتعامل مع جنود العدو الفارين وأسرهم، إضافة إلى مجموعة انتحارية يتم إنزالها شاقولياً فوق المرصد مهمتها مشاغلة العدو المتواجد ضمن نطاق المرصد ريثما تصل مجموعات الاقتحام. عناصر المفاجأة ومع حلول ليل الجمعة 5 تشرين يقول اللواء محمود معلا: بدأت مجموعات الاقتحام الست بالتحرك بواسطة السيارات من عرنة إلى منطقة العقبات دون أضواء أو ضجيج ليتابع المقاتلون بقية الطريق سيراً على الأقدام وصولاً للقطاع المتفق عليه، بحيث لاتتحرك مجموعة إلا بعد أن تصل المجموعة الأولى وهكذا.. حتى أخذت جميع المجموعات أماكن تموضعها تمام الرابعة فجر السبت السادس من تشرين وعملت على التمويه الجيد والتزام السكون التام دون أي اتصالات أو طعام أو شراب أو حركة، حتى إشارة الهجوم الذي رسمت القيادة خطة دقيقة له، وهي تحقيق عنصر المفاجأة حيث اعتادت الجيوش مباغتة أعدائها عند الفجر فيما هجوم قواتنا كان في الثانية ظهراً، أما البند الأهم للخطة فهو عدم تحرك مجموعات الاقتحام الست إلا بعد وصول المجموعات الانتحارية وبدء مشاغلة العدو ثم يبدأ تحرك المجموعات بشكل متتابع الواحدة تلو الأخرى، وذلك كي لاتتجمع القوات جميعها فتكون هدفاً لنيران مدفعية العدو وطيرانه، وبنظر القيادة تحرير المرصد هدف لابد من تحقيقه، ونظراً لصعوبة الموقف ووعورة المنطقة وكثرة الألغام وتحصينات العدو وتمترسه فإن وصول المجموعة تلو الأخرى سيشكل مفاجأة جديدة للعدو الذي سينهار حتماً بوصول المجموعة السادسة.. قلعة حصينة ويضيف اللواء معلا: لنتمكن من تخيل كيفية سير المعركة وصعوبتها لابد من ذكر أن المرصد الذي احتله العدو خلال نكسة حزيران 1967 مبني من حجارة البازلت المقطوعة من صخور الجبل نفسه بحيث يبلغ طول الحجر متراً تقريباً، والجدار على شكل مدرجات وزوايا حادة بحيث يصعب على القذيفة إحداث أضرار مباشرة فيه، أما السور الخارجي فعرضه 6 أمتار وثلاثة أمتار من الاسمنت المسلح والبناء محفور في صخور الجبل على شكل هرم بالمقلوب بحيث تكون الطوابق السفلية « تحت الأرض» أقل اتساعاً من الظاهر فوق الأرض والذي يضم أجهزة شديدة التعقيد للتجسس على الأقمار الصناعية وسفن الفضاء وأجهزة تشويش بعيدة المدى وأجهزة تنصت على المخابرات اللاسلكية، ولاحقاً فككت قواتنا كافة الأجهزة لدراستها ومعرفة وظائفها والغرض من استخدامها. كذلك لامجال لدخول المرصد إلا من الباب الرئيسي الواقع اتجاه الغرب لوجود حقول الغام حوله بنوعيها مضاد للأفراد والاليات. أما داخل المرصد فيوجد شبكة مدافع رشاشة تتحرك بشكل دائري ويتحكم بالباب الرئيسي باب حديدي ذو سماكة كبيرة، أما في الطوابق السفلية فيتفرع دهليز طوله 5 أمتار يقود إلى ثلاثة دهاليز على جوانبها توجد غرف الأفراد ومخازن الذخيرة والمياة والأطعمة الجاهزة التي تكفي القوات الموجودة لشهر أو أكثر بحيث يمكن القول إن المرصد قلعة حصينة يصعب اقتحامها... بأقل من ساعة دخلنا المرصد لكن القوات السورية التي تعرف طريقها للنصر والنجاح في مهامها، فهي التي تدربت جيداً على الاقتحام واستطلعته جيداً طيلة فترة التحضير، فكان مقاتلونا تواقون لتحريره, وهذا سبب اندفاعهم الزائد ، فماإن شاهدوا نسورنا فوق المرصد ومع الرمي التمهيدي المدفعي بدأ هجوم المجموعات دون التقيد بالخطة فاختطلت مجموعات الاقتحام مع بعضها لتدخل جميعها نطاق المرصد ومن الباب الرئيسي دون انتظار المجموعة الانتحارية التي تأخرت بدورها نظراً لحمولة الحوامات الزائدة وارتفاعها الكبير ما أيقظ العدو الذي حاول المقاومة فتكبد خسائر فادحة حيث قضينا على أعداد كبيرة منهم وأسرنا الأخر ليفر من تبقى إلى داخل البناء ويغلق الباب الحديدي السميك ظناً بأنه سيحميه من بأسنا. التطهير لم يحتج الأمر إلى الكثير من التفكير لأنني على الفور أخذت قاذف «أر بي جي» من أحد المقاتلين وأطلقته اتجاه الباب الحديدي فخلع وإذ باثنين من جنود الاحتلال يخرجون رافعي الأيدي مستسلمين دون أي مقاومة مايدل على جبنهم وهشاشتهم في لحظات المواجهة الحقيقية ، وعلى الفور بدأت ومن معي من المقاتلين بتطهير المبنى بغرفه ودهاليزه التي يصل بعضها إلى مسعده ومجدل شمس ، ومستودعات الذخيرة، لنجد أعداداً منهم مختبئين في زوايا الغرف والممرات وهم يرتجفون خوفاً، لنصل إلى أحد الدهاليز المظلمة فنقتحمها لكننا فوجئنا بانفجار قنبلة تسببت باصابتي بعدد كبير من الشظايا وأغمي علي، لكنني أذكر أن آخر كلمة نطقت بها كانت «بندقيتي» وعندما صحوت وجدت نفسي خارج البناء ومعي العديد من جنودنا المصابين ، لنبقى على هذه الحال أربعة أيام لأن الوصول إلينا واسعافنا صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، فالعدو بعد أن دخلنا المرصد وحررناه جن جنونه فبدأ بالقصف المتواصل بنيران المدفعية والطيران وقذائف الهاون إضافة لإرسال مجموعات اقتحام معادية كان لها مقاتلونا الأشاوس بالمرصاد وليكبدونهم أكبر الخسائر ملحقين بهم الهزيمة تلو الأخرى لتستمر المعارك إلى مابعد قرار وقف اطلاق النار. دلائل رغم مرور أربعة أيام من الألم والنزيف والتهاب الجروح والبرد الشديد بقيت ومن معي والكلام لـ «اللواء معلا» من المقاتلين الجرحى متمسكين بسلاحنا مستعدين للمواجهة والمقاومة، فلا سبيل للتراجع أو الاستسلام ولاسبيل لاسعافنا لتعذر وصوله براً أو جواً فالأحوال كانت صعبة جداً والعدو الغاشم لا يتوقف دقيقة عن قصف المرصد ومحيطه ، والامداد مستحيل بسبب صعوبة الطريق والصخور والانحدار الشديد للجبل حتى إنني أذكر أن قواتنا وفي محاولة لإيصال الإمدادات لمقاتلينا في المرصد استخدمت «البغال» التي أحضروها من أهالي عرنه دون فائدة إذ إن البغل كان يتدحرج بحمولته من ذخائر وأطعمة عندما يصل منتصف الطريق الجبلي، ومع تفاقم الإصابة وما ينتج عنها ولحرص القيادة على حياة المقاتلين، أمر قائد الكتيبة بنقلي بواسطة المقاتلين أنفسهم خارج نطاق الرمي المعادي وهناك رفضت أن يبقى أحد معي وأمرتهم بالعودة لأبقى وحيداً في العراء إلى أن جاء الضابطان « محسن سلوم وزهير مستت ومعهم مجموعة من المقاتلين يحملون الذخيرة والامداد على ظهورهم إلى الكتيبة في المرصد ،فأصروا على انقاذي وحملي إلى النقطة الاسعافية لكنني رفضت وبشدة قائلاً: يجب ان يصل السلاح والامداد إلى رجالنا فهم بأمس الحاجة إليه». لكن مروءة وشهامة مقاتلينا وضباطنا الذين وجدوا الحل أن يحمل كل منهم حملاً زائداً ليتفرغ البعض الآخر لحملي إلى موقع تتواجد فيه سيارات الاسعاف حيث تم اسعافي من هناك إلى مشفى حرستا العسكري ما يثبت تماسك جيشنا مهما اشتدت الصعاب والمحن كما يثبت حرص المقاتل على حياة رفيقه كحرصه على نفسه كما يثبت بالوقت نفسه جاهزية أبطالنا للتضحية بحياتهم في سبيل نصرة الوطن وعزته . خلف كل صخرة شهيد منحتني القيادة قدم رتبة كاملة «أربع سنوات» إضافة إلى إرسالي مع العديد من مصابي وجرحى الحرب للعلاج بالمشفى العسكري في الخارج وهناك وجدنا ما يدهش حقاً، حيث قصص بطولة الجندي السوري كانت قد سبقتنا، كما تم احترامنا وتقديرنا إلى أقصى الدرجات وقدمت لنا جميع الخدمات والعناية الطبية غير المسبوقة فكان مصدر افتخار أن نسمع الأطباء الفرنسيين وهم يقولون لنا «بالعربي» مع اشارة بإبهام اليد « تمام أسد.. كويس أسد» حتى إن أحد السفراء الأوروبيين الذي قدموا برفقة سفيرنا في باريس آنذاك قال لنا: القوات المسلحة السورية قاتلت قتال الشرف والقوات الخاصة أبدعت بجبل الشيخ وأذهلت الخبراء العسكريين في العالم بخططها الحربية وأعطت مثالاً عن حب الوطن والتضحية في سبيله فخلف كل صخرة كان يوجد شهيد. أسود الوغى هكذا كان مقاتلنا السوري أسداً يزمجر فترتعد ساحات الوغى ، ونسراً في السماء يعانق الشمس بعز وكبرياء ، لايرضى الهزيمة أبداً ولا يهاب الردى، النصر غايته ، ورفعة الوطن مبتغاه وهدفه ، فيما الجبن شيمة الأعداء والغدر ميزتهم والخوف والفرار شعارهم وهذا ما عايشناه ولمسناه فبعد 12 يوما من تحرير المرصد، كنا نجد جنودهم مختبئين كالجرذان داخل المبنى، كما أنني أذكر أن أحد المقاتلين الذين كانوا في مجموعتي كان يسدد بقاذف الآر بي جي على دبابة معادية فأسند قاذفه بين صخرتين لكنه استشهد قبل اطلاق القذيفة فبقي القاذف عالقاً بين الصخور لعدة أيام دون أن يتجرأ جندي أو قائد صهيوني على التوجه أو المرور اتجاه القاذف ، فحرب تشرين أثبتت شجاعة أبطالنا وقدسية حقنا واحترامنا للمواثيق والقرارات الدولية وقدرتنا على صناعة النصر ساعة نريد، فإن كانت تشرين تحققت بنصر مستحق مبين لنا وإن كنا التزمنا بقرار وقف اطلاق النار ، لكن كما قال القائد الخالد «المعركة مستمرة بأشكال متنوعة» ولعل مانشهده اليوم من حرب كونية على بلادنا هي شكل من أشكال الأطماع الإسرائيلية وأمها الولايات المتحدة واتباعهما في المنطقة التي وضعت حرب تشرين أبجدية مقاومتها وعنوانها وكرامتها، ويصيغ بواسل جيشنا وميامين قواتنا المسلحة اليوم قوافيها، فهذا هو التاريخ نحن لسانه وفؤاده وسلاحه وصناع قراره ومستقبله. |
|