|
ثقافة
وحدهم البوذيون بقوا صامتين لم يصدر عنهم أي احتجاج، أو توسل، وتقبلوا تدمير تماثيلهم الدينية برضا و سلام..! من يطلع على كتاب «تعاليم بوذا» في نسخته العربية، الصادر عن دار الحوار في اللاذقية، أحسبُ أنه سيصل إلى تفسير لردة الفعل هذه التي تقبلت الاعتداء الديني من الجهة التكفيرية المذكورة، تلك التعاليم التي أعدها بوكيو ديندو كيوكا، وترجمها الدكتور عبد الجليل جواد، أول ما تؤكد عليه هو الابتعاد عن شرورٍ خمسة في العالم، أولها: القسوة، من هنا كان «الحنان» هو ديدن هذه العقيدة الفلسفية، بل أنّ البوذية تعني أن يكون الإنسان حنوناً حتى على أعدائه.. هذه الحالة من ال «نيرفانا» يصل إليها البوذي من خلال طرقٍ نبيلة حددها بوذا بثمانية، وهي: الرأي السديد، التفكير السليم، الحديث الصواب، السلوك القويم، التنشئة الجيدة، طريقة العيش السليمة، الجهود الصحيحة، والتركيز الصحيح. فذلك ما يُسمى بحقيقة الطريق النبيل لوقف المعاناة، غير أن ذلك لن يتم إلا بمعرفة المؤمن بالحقائق الأربع وبذلك يذهب بعيداً عن الجشع، وإذا تخلص المرء من الجشع، فلن يتصارع مع العالم أي: لن يقتل، لن يسرق، لن يزني، لن يغش، لن يحسد، لن يفقد أعصابه، ولن ينسى سرعة زوال الحال، كما لن يكون ظالماً، ولا يتعدي ولا يُداهن. ففي درب التنوير وصولاً إلى النور الخالص - كما وصل إليه بوذا - لابد من: الإدراك، الإيمان، العطاء، والحكمة. والبوذية ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد في الهند، قبل أن تصير معتقد الكثيرين في الصين واليابان، ودول وسط آسيا. في الهند حيث ولد سيظاراثا - بوذا كأمير في إحدى الممالك على الحدود مع النيبال، عاش مرفهاً حتى سن التاسعة و العشرين حيث تزوج و أنجب ولداً، و ذلك كان آخر عهده بالرفاهية و حياة القصور، حيث قرر أن يمضي في درب البحث عن الحقيقة، وبعد صراع مرير وطويل في رحلة عذاب و معاناة صراع مع الذات و رغباتها، يصل ليكون بوذا أو «كامل النور» حاملاً على ظهره رسالة تقول بمحاربة الذات والانتصار عليها، و إخضاعها إلى مفاهيم الفضيلة والتسامي على جميع الأرجاس و الأهواء الأرضية، فجوهر البوذية هو الوقوف بوجه الجشع و الطمع و الشهوة و التملك، التي من شانها جميعاً أن تفسد الذات البشرية، و تجعلها تحيد عن طبيعتها الأساسية القائمة على النقاء و الصفاء، من هنا وجب على البوذية أن تناضل طول الوقت لإعادة الإنسان إلى نقائه الأول لغرض الوصول إلى الحالة النورانية، و الدخول في أرض بوذا في حياة تلي حياته الأرضية. والبديل الذي تطرحه البوذية لحياة الإنسان، ومستقبله على الأرض يتكيف مع ضرورة نبذه للشر و مقاومة النزعات الشريرة في الذات البشرية، و التي تراها البوذية مكتسبة و دخيلة، من هنا فالبوذية هي احتجاج على إفساد البراءة الأولى للإنسان .. وبوذا الذي استمر بدعوته خمسٍة و أربعين عاماً بقي يُعلم الحكمة و الحب، و نتيجة لذلك انتشرت البوذية في عموم الهند والصين و اليابان و دول كثيرة في آسيا الوسطى، وفي مختلف دول العالم، وذلك من خلال تعاليم تمّ تسجيلها في أكثر من خمسة آلاف جزء، حيث ساهمت البوذية في تحولات المجتمعات التي حلت بها، فقد استطاعت بمضي الزمن أن تحدث التحول النوعي المطلوب، و تتكيف مع ظروف مجتمعاتها التي تحل بها، فمع انتقال البوذية من الهند إلى الصين أصبحت بعد مرور فترة ليست بالقصيرة ذات طبيعة صينية، و هكذا مع المجتمعات الأخرى، بمعنى إن هناك اليوم بوذية صينية، و أخرى يابانية، حيث منها نهضت طائفة «الزن» الصينية ذات الشهرة الذائعة. و بوذا لايقدم تعاليمه مجردة، بل يقدمها من خلال قصص و حكايات قديمة مفعمة بالرموز، لكن التي يسهل تحليلها للسير بطريق النور . فالعالم حسب الرؤى البوذية مملوء بالمعاناة، الولادة معاناة، التقدم في السن معاناة، المرض والموت معاناة، لقاء شخص تكرهه معاناة، العمل بجد لتلبية متطلبات الحياة معاناة، و في الحقيقة، لا تخلو الرغبات من الآلام، و ذلك مايُسمى بحقيقة المعاناة، و سبب المعاناة الإنسانية هو عطش الجسد المادي، و إذا تمّ التعرف على ذلك العطش، و ذلك الوهم، فسوف يتضح ارتباطها بالغرائز المادية، تلك الرغبات التي لها القدرة على البقاء حتى لو كانت مميتة، و ذلك حقيقة سبب المعاناة، وإذا تمكن الإنسان من إزالة الرغبات، فإن الهوى سوف يموت، و سوف تنتهي المعاناة الإنسانية، و هذا يدعى حقيقة إنهاء المعاناة. على المرء أن يخاف من الشر مهما صغر، و ذلك بالسلوك القويم و بتركيز الذهن، الذي يعني الابتعاد عن الجشع والرغبات، و الحكمة في بقاء الذهن نقياً و هادئاً بالفهم التام و قبول الحقائق الأربع النبيلة، وهي معرفة حقيقة المعاناة وطبيعتها، و مصدرها، و معرفة إنهاء المعاناة، و ذلك بالطريق النبيل الذي يقود لإنهائها، و بذلك يصير المؤمن بطريق النور، و من أتباع بوذا. |
|