|
ثقافة وما تبع ذلك من احداث ومحطات غيّرت وجه العالم، عشرة اعوام... سنوات ليست بالامر الهيّن ابدا, ولاهي عابرة فقد اسست لما نراه اليوم ايضا من حرب كونية على سورية، في ذاك العقد من الزمن المتسارع والمتغيرات المتفجرة ألقى القائد المؤسس حافظ الاسد خطاباً هاماً رأى فيه ان ما يجري هو تغيير كبير وجذري وزلزال لن تتوقف تبعاته لعقود طويلة، وها نحن الان نرى الارتدادات بعد ما يقارب الربع قرن من الزمن.
واليوم نعود الى هذه الاعوام العشرة بقراءة متمعنة هادئة، تحلل وتفسر وتوثق، وتكشف ما طال غيابه واثيرت حوله الكثير من التساؤلات، عشرة اعوام مع القائد حافظ الاسد 1990/2000م، كتاب الدكتورة بثينة شعبان المستشارة السياسية والاعلامية في رئاسة الجمهورية، الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، ليس كتاباً عادياً، يقرأالمرحلة من جانب واحد ويهمل الجوانب الاخرى، بل جاء ليكون الكتاب الوثيقة والتحليل والرؤى والاستشراف، والشهادة على عشرة اعوام عاشتها وكانت في الكثير من الاحيان جزءا من تفاصيلها ووقائعها مع فريق العمل السياسي، فما بين نبض الروح المبدعة ومسؤولية الكلمة الموثقة والرؤية التحليلية ستجد نفسك في رحلة شاقة لكنها ممتعة في كل تفصيل، وكل زاوية وكل رؤيا تكشف اسئلة طرحتها ذات يوم فاذا بك الان تجد جوابا عليها، وليس أي جواب، فهنا الوثيقة والشاهد والتاريخ تقدم اليك ما كنت تتوق لمعرفته.
خطوات نحو الامل ثمة خطوات لم تكن في يباس ولا على رمال متحركة ابدا، انما كانت واثقة من انها ترسم دربا سيورق ويثمر لان الزرع اصيل، والحصاد اليانع للجميع وليس للزارع وحده ابدا، في مقدمة طافحة بكل المعاني والدلالات الانسانية تنسكب كلمات وسطور للحديث عن هذا الدرب الاخضر الذي اشرنا اليه، خطوات طالبة متفوقة في المرحلة الثانوية تقودها الى افاق اتسعت وصارت معالم ترسخت واعطت ثمارها، تروي الدكتورة بثينة شعبان حكاية اول لقاء لها مع الرئيس الراحل حافظ الاسد وباختصار تقول الحكاية: انها كانت المتفوقة الاولى على محافظة حمص الفرع الادبي في سبعينيات القرن الماضي والرابعة على مستوى سورية, وكان القائد المؤسس قد اصدر تشريعا يقضي بمنح مالية للمتفوقين في الفرع العلمي، وثمة ثغرات شابت التشريع، ولم يهدأ بال للدكتورة بثينة شعبان حتى استطاعت ان تقابل السيد الرئيس في الكلية الحربية بحمص اثناء زيارته لها، ليكتمل اللقاء بعد ذلك في القصر الجمهوري الذي استدعيت اليه، ومن ثم كان التعديل الذي صحح الثغرات السابقة، وبذلك حققت بثينة حلمها بدراسة الادب الانكليزي في جامعة دمشق، وحين تصف هذا اللقاء تنقل الدفء الانساني الذي تميز به القائد المؤسس اذ تقول: (دخل الاسد الغرفة التي اجلست فيها منتظرة، كان طويلا وآسرا كما رأيته قبل يومين في الكلية العسكرية، كان يرتدي بذة زرقاء وتشع منه القوة والثقة مثلما كان يظهر في كثير من الاحيان على شاشة التلفزيون، بدأ بالسؤال عن مشكلتي بالتحديد وقال: تفضلي يا بنتي كيف يمكن لي ان اساعدك ؟). وبعد ان سردت على الرئيس المشكلة: (وما ان صمتت ونظرت اليه محاولة ان اقرأ قسمات وجهه قبل ان اسمع جوابه، حتى رأيته يأخذ نفسا عميقا ويقول لي: معك الحق لم اكد اصدق ما اسمع: الرئيس حافظ الاسد يقول لي: معك حق، وانا الطالبة الصغيرة القادمة من قرية المسعودية، والتي ترى دمشق لاول مرة، ومعي الحق لقد تعلمت في تلك اللحظة درسا في الحياة مفاده، ان الحق لايعتمد على المناصب، ولا على الغنى ولا على المكانة، واننا يجب ان نبحث عنه وننصت لصوته ونكتشفه, فقد يصدر عن ناس لانتوقع انهم يمتلكونه). مرة ثانية لعشرة أعوام بعد سنوات من اللقاء الاول، كان اللقاء الثاني كما تقول د. بثينة اذ طلب منها وزير الخارجية مرافقته لحضور اجتماع هام، وفي الطريق اخبرها ان المطلوب ان تقوم بالترجمة بين الرئيس الاسد وضيفه (كنت متوترة جدا وربما ظهر ذلك جليا على وجهي، لكن الرئيس الاسد وهو رجل دمث فائق التهذيب ربت على كتفي وقال: لا تخافي يا بنتي، ان اخطأنا فسنكرر ما قلناه، وليست المسألة خطيرة، وكان استعماله ضمير الجميع المتكلم في قوله اخطأنا يدل على طريقته المهذبة في القول: ان اخطأت انت.... وحين انتهى الاجتماع وبعد مغادرة الضيوف الامريكيين مباشرة التفت الرئيس الاسد الي وقال: ماذا كان سيحدث لنا لو اننا لم نرسلك الى الجامعة ؟ كنا سنجلس هنا اليوم دون مترجم !لقد تذكرني كان امراً رائعاً من رجل في مركزه وسلطته ان يكون يقظاً وشديد الاهتمام ومراعيا لمشاعر الاخرين، كان ذلك اليوم وسيبقى احد ايام حياتي التي لاانساها، في ذلك المكان والزمان كسبت ثقة الرئيس واحترامه كما قال لي فيما بعد وبقي ذلك مستمراً من ذاك عام 1991 وحتى وفاته في العاشر من حزيران 2000م. الطريق الى مدريد هو الفصل الاول من الكتاب، والوثيقة الاصدق والادق عما جرى في الطريق الى المفاوضات ومن الصفحة 35الى69 لايمكن لك ان تسقط كلمة او حرفااو جملة، ولاتستطيع ان تغادر ما انهت به الفصل الاول على لسان القائد الاسد لوفد اميركي: نحن لانريد منكم تأسيس علاقة معنا تتعارض ومصالح بلادكم، نحن نريد منكم ان تأخذوا مصلحة بلادكم بالاعتبار مصلحة الولايات االمتحدة وحدها وليس مصلحة الاخرين - في اشارة منه الى اسرائيل -. وتتابع د. بثينة الحديث عن مؤتمر مدريد وتقدم لقطات رائعة طافحة بالمعاني والدلالات والوطنية قبيل السفر الى مدريد، ولاسيما حين يلتقون القائد المؤسس وما قدمه اليهم من توجيهات (سنكون مرنين لكن ليس حين تطرح مسألة الارض مقابل السلام)ولقد ذكرنا القائد الاسد قائلا: (أي شيء تقولونه او أي شيء تفعلونه سيعلم به شعبنا، وعليكم الا تنسوا هذا، لاشيء سري فيما يتعلق بمدريد وليس لدينا ما نخفيه). وفي تفاصيل ما جرى في مدريد وهو تحت عنوان: طوبى لصانعي السلام سنجد كما كبيرا من التفاصيل الهامة والضرورية، وكلها موثقة بدقة وتظهر كم كان العدو مراوغا لكن يقظة السوريين ودبلوماسيتهم المتميزة فضحت الاعيب اسرائيل ومفاوضيها. ومن الفصل الثالث الى الحادي عشر تتدفق المعلومات التي تضيء على مرحلة من مراحل مواجهة العدوان بطرق مختلفة وتقدم قراءات دقيقة لما وراء الحدث وتضعنا في اجواء ما كان لترتسم صورة واضحة المعالم بدقة، لاتقبل الزيف ولايمكن لاي مؤرخ ان يتجاوزها ابدا لانه الوثيقة المعاصرة، صورة وصوت وكلمة والاف الاف المراجع والوثائق وما زال الشهود احياء، ومن صعود بيل كلينتون مرورا بوديعة رابين التي لم تكن عبورا بجوهر الصراع وإرث يوسف العظمة الى تفاهم نسيان ووصولا الى فصل الختام الذي عنونته بالرجل الذي لم يوقع، لايمكن للقارىء ان يتجاوز سطرا واحداً، ولا ان يترك مسافة للاختزال قارئا ومتابعا ومحللا ومستضيئا بما في الكتاب الشاهد من معلومات، بالوقت نفسه نحن امام قراءة اخرى مختلفة لمرحلة تاريخية هامة واضاءات تكشف عن جوانب انسانية نعرفها عن القائد الاسد، لكنها هنا تأتي بهية في سياقها وحقيقة وقائعها. الكتاب ابعد من مذكرات او وثائق او شاهد على مرحلة ما إنه يجمع ما بين هذه المفردات كلها, وللكتاب اهميته الكبرى على انه شهادة تاريخية كما اشار في مقدمته عبد الاله بلقزيز. يقع الكتب في320صفحة من القطع الكبير، وثمة مجموعة من الوثائق التي ضمها الملحق. |
|