تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دائرة الطباشير الزيدانية

معاً على الطريق
الأحد 4-1-2015
مصطفى المقداد

أعادني أيمن زيدان إلى الحالة المسرحية المفتقدة باختياره نصاً بريختياً ومعروفاً وتم عرضه على خشبات الكثير من المسارح العالمية، فالحكاية معروفة وما ترمي إليه من مغزى معروف إذ إن الرعاية والتربية والاهتمام عوامل تعد أساساً لمعنى الأمومة الحقيقية،

وبالتالي الانتماء وليس العملية البيولوجية وحدها ما يحدد صعوبة وطبيعة الوليد، فنحن أبناء البيئة التي ننشأ فيها، ونبقى رهيني الثقافة والتربية والمنظومة التعليمية التي نهلنا منها معارفنا ومعلوماتنا.‏

اختار الفنان أيمن زيدان نص دائرة الطباشير القوقازية للمسرحي الألماني بروتولد بريخت لينقل من خلاله رسالة سياسية وثقافية واجتماعية حاضرة تجيب على تساؤلات وإرهاصات نعيشها نتيجة الأزمة التي تمر بها سورية منذ قرابة الأربع سنوات، فالأزمة -الحرب- كشفت الكثير من كوامن النفس البشرية، وكأن الناس كانوا ينتظرون هذه الحرب ليكشفوا عن خباياهم السوداء، لأنها تعكس حقيقتهم، وكأنها تطبيق لمبدأ اختبار الذهب بالنار، أما مغزى المسرحية -الرسالة- فواضح في ضرورة إيكال المسؤوليات والأمور إلى أصحابها الذين يحسنون إدارتها، فالأرض لزارعها، والأوطان لحماتها وذلك من خلال حكاية الطفل الذي تتركه أمه زوجة الحاكم في زمن الضيق باعتباره ليس من أولوياتها واهتماماتها، بينما تهتم به الخادمة فيصبح الطفل حقاً لمن رعاه ورباه وعمل على إعداده وحمايته، وبذلك تحنو الأم المربية على الطفل خلافاً لمن ولدته، الأمر الذي يمثل رسالة آنية وراهنة لكل عاقل في بلدنا يعرف قيمة وطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه لمواجهة الأزمة التي تتهدد وجودنا بأكمله.‏

والسؤال الذي يتطلب إجابة مقنعة عليه هو لماذا اختار زيدان هذا النص في هذا التوقيت بالذات؟ وهل كرر في عرضه رؤى من سبقه في إخراج هذا النص أم حقق نجاحاً من خلال تقديم رؤية إخراجية وتمثيلية وحتى سينوغرافية مختلفة؟.‏

صحيح أن النص معروف للحضور وهو حكاية رافقت طفولة الكثيرين لكن المخرج أيمن زيدان جعلنا نترقب حوادث المسرحية وحواراتها فالمشاهد يعرف الرواية لكنه هنا يشهد صوراً وشخوصاً وعقدة حوارية غير متوقعة فالراوي -عروة العربي- أدى دوراً يعد ببساطة قيمة إضافية من خلال حركاته وطريقة إلقائه ووضوح مخارج الكلمات فيه، شأنه شأن جميع الممثلين الذين تجاوزوا كل الأخطاء اللغوية ولم يقع أي منهم بخطأ ما.‏

وكان القاضي المثقف البوهيمي السكير الدائم -محمد حداقي- نموذجاً لحامل الرسالة الثقافية والاجتماعية والسياسية وهو يمثل جانباً مشرقاً من حياة البشر بكل ما فيه من متناقضات فرضها الواقع الاجتماعي فإنتج خلاصاً مجتمعياً وليس خلاصاً فردياً فانتقل بين شخصيات متعددة تجمعها وحدة الانتماء الصادق.‏

ولا يختلف الأمر مع الخادمة غروشا -ولاء عزام- وبقية الشخصيات من وزير وزوجة الحاكم والعسكري سيمون منفذ فكرة الفداء والتضحية والإيثار فقد كان العمل يسعى لنقل تفاصيل مواقف وشعور شخصيات دائرة الطباشير وعرض مصائرها في طريق البحث عن إجابات جدية لأسئلة تؤرقه وفق ما يقول المخرج المسكون بهموم الوطن في أزمته التي تحتاج إجابات مقنعة لتساؤلات صعبة وقاسية في ظل حالة انكسار وضعف تستدعي استنهاضاً من جانب المثقفين الذين يحملون هموماً وآمالاً ويعتقدون بأنهم مدعوون لاتخاذ موقف واضح في هذا الزمن ولا قيمة لمواقف لاحقة في أوقات وظروف مغايرة.‏

لقد أعادنا المسرح القومي لواقع ثقافي بصبغة تشجيعية، فالصالة كانت تغص بالحضور إسقاطاً لمقولة موت أو تراجع أبي الفنون عن دوره، وانسحاب دوره من الحياة الثقافية، وعزوف الجماهير عن الذهاب إلى المسرح كما كان الأمر في سنوات خلت.‏

والحقيقة أن الأمر التوصيفي غير دقيق، فهو مرتبط بالعمل وقيمته المعنوية وما يمكن أن يقدم من إجابات لتساؤلات تؤرقنا وما يضيف من قيمة إضافية لمعارفنا واحتياجاتنا، وهو ما تحقق من خلال مسرحية دائرة الطباشير التي عرضت على خشبة مسرح الحمراء الأسبوع الماضي، كانت بسيطة في ديكوراتها وتكاليفها تماشياً مع حالة ضغط النفقات، لكنها كانت غنية في تأثيرها وتفاعلها مع الحضور الذين شاركوا بالعرض واتصلوا وتواصلوا بالشخصيات التمثيلية فوق العادة ونظروا عن قرب بعيونهم وخاطبوا بعضهم مسرحياً وعاشوا لتسعين دقيقة تقريباً حالة من الدهشة المترافقة مع متعة المعرفة، فالأحداث على الخشبة لم تكن متكررة شكلاً، فيما جوهر الحدث حاضر في ذاكرة المشاهد فيسر وينعم بمشهد جديد وحركة رشيقة وتوصيف يحترم المشاهد ويعكس جهداً إخراجياً ومتابعة لكل تفاصيل عمل فني لن يكون نسيانه سهلاً.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية