تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أيها المهاجرون في قوارب الموت... ها نحن على قيد الحياة...

مجتمع
الثلاثاء 24-9-2013
منال السمّاك

لم يسعفهم الحظ للحاق بموعد الطائرة إلى القاهرة ، و كانت رحلة العودة من مطار دمشق الدولي إلى البيت مخيبة لآمال الكبار و لحلم الهجرة و كانت بالوقت ذاته مناسبة سعيدة للأطفال ،

و ما إن وطأت أقدامهم الصغيرة منزلهم حتى بدت الشماتة من أحلام الأهل ، و لم يستطيعوا أن يخفوا فرحتهم و كانت عبارتهم “ ألم نقل لكم بأن الشام أحلى “ مستفزة لمن حزم الحقائب ..‏

رغم خيبة الأمل لم يستسلموا لفوضى حجوزات الطيران مع كثرة المسافرين ، و كانت فكرة السفر قد استحوذت على عقولهم .. و حاولوا من جديد في رحلة المخاطر إلى المطار و التي قد تساوي مشقة الرحلة التالية وسط البحار ، لم يجدوا غضاضة في دفع المعلوم كي يحظوا بمقاعدهم الأربعة على متن الطائرة بموعد مستعجل ، خاصة بعد ازدياد المخاوف من ضربة أميركية و كيماوية و إمارات إسلامية ..‏

طالبو لجوء‏

على شواطئ الإسكندرية سلموا أجسادهم لمهربي البضاعة البشرية الهاربة كمهاجرين غير شرعيين .. و في قوارب الموت ألقوا أرواحاً بلا أمتعة و إلى مرارة الغربة مضوا ، و قبل أن يمتطوا أجنحة النوارس خلعوا وطناً على الشواطئ و خرجوا من جلدهم و غيروا لونهم و لسانهم ، أمواج البحر المتلاطمة تقاذفتهم و حملت أوراق سفرهم و نثرت صور وجوه تائهة بين موجة حانية تشفق على حالهم و بين موجة قاسية تؤنبهم و تدعوهم للعودة من حيث أتوا و إلا !! حارت نظرات أطفالهم المتسائلة رغم الحداثة .. لماذا الرحيل .. و هل هناك بلد و دار أجمل من شامة الدنيا ، سحبوا أيديهم الصغيرة المتشبثة من يد وطن عاشق لأبنائه .. ذرفوا دموعهم كطقس تقليدي للرحيل و غادروا .. ذكريات الأماكن غاصت عميقاً إلى القاع صرخت طلباً للنجدة و الانتشال من خوف بشري يهرب من موت و يتبعه ..‏

لا تسألهم إلى أن تمضي بهم قوارب الفرار من الأقدار .. إلى المجهول أم إلى النسيان و الهروب من الذات ، من وطن الأمان و تشريع النوافذ و الأبواب على قاسيون و الغوطتين و بردى ، إلى ضباب مدن لا تعرف صلة الأرحام و لا الحنين و الاشتياق و التعلق بأشياء و هواء ..‏

الثمن .. روح أو تحويشة عمر‏

الهجرة ثم الهجرة و لو كلفت الملايين .. عجباً لحالهم .. فيما مضى كانوا يتعلقون بذيول وطن .. و يتمرغون في أمانه و يستنشقون هواءه .. و الآن يتسابقون في الهروب و الجري إلى السفارات و الاستجداء لفيزا و لو في بلاد الواق واق أو إلى أحد الأقطاب المتجمدة شمالاً أو جنوباً بحثاً عن مزاد لشراء وطن و فرصة عمل .. المهم أن يخرسوا أصوات الانفجارات و دوي القصف و يصموا آذانهم عن تأوهات موجوعة لوطن و يستسلموا لنوم عميق على فراش غريب .. في بلاد الاغتراب لن يسمعوا نشرات الأخبار قبل ارتشاف فنجان قهوتهم الصباحية و مع كل وجبة طعام .. و ربما لن تستهويهم السيدة فيروز في أغنية ردني إلى بلادي .. بينما هم دفعوا تحويشة العمر لاجتياز الحدود و البحار ليصلوا إلى أوروبا ليلامسوا غيومها التي ستغتال ليلهم و نهارهم إلى درجة الاكتئاب و الانتحار ..‏

أجساد كثيرة كانت الشواطئ الغريبة مقابر لها بلا شواهد و لا أسماء و لا زوار تحت يافطة مقابر الغرباء .. و الأرواح بقيت تعانق أمواج البحار .. و النوارس تردد رجع أصوات غرقى تحت جنح الظلام يستنجدون من ينتشلهم من اهتزاز قوارب الصيادين المهترئة و التعلق كاللصوص بالبواخر العابرة باتجاه شواطئ إيطاليا حيث بداية الأحلام و التجرد من الأوطان ..‏

بينما قصص السفر المؤقت أو الهجرة الجماعية الدائمة تحتل حيزاً من أحاديثنا عن قريب أو صديق أو جار مهاجر ، هناك من لا يتخيل نفسه خارج وطنه مهما ساءت الظروف و بلغ حجم المغريات خارجه .. كان أحدهم يحدث آخراً على قارعة الطريق و قد بدا الانفعال مسيطراً عليه , استوقفني .. كان يحلف بأغلظ الأيمان بأن وقوفه تحت منهل للمياه و الشرب منها و لو كانت غير نظيفة كما ينبغي ، تساوي أوروبا بما و بمن فيها ..‏

وطن للشراء‏

من عبروا إلى الضفة الأخرى حيث سواحل أوروبا ستكتب لهم ولادة جديدة بعد النجاة من موت محتمل وسط أمواج لا ترحم أجساداً مرتجفة .. سيشترون وطناً على مزاجهم و مقاسهم .. وسيلبسون ثياباً لا تشبههم .. سيغيرون أفكارهم عن صفات وطن مثالي بلا منغصات و لا ربيع عربي و ويلاته .. و سيكونون مواطنين لوطن مستعار بلا لون و لا جذور و لا انتماء .. ربما سيتذكروننا من وقت لآخر في الإجازة السنوية و يأتون كسياح مغتربين ليسألوا عمن بقي من بشر و حجر و أثر .. سنكون نحن هنا على نقطة ما من خارطتنا السورية .. سنذكرهم بيوم أزمة ، و نحدثهم عن أبطال صارعوا على عتبات الحياة للبقاء و نالوا شرف مواطنين لوطن يستحق العناق بالأرواح .. سنذكرهم بجبنهم و إحباطهم و يأسهم و نقول لهم .. ها نحن ما زلنا على قيد الحياة و إن لم نكن أحياء فها نحن غصنا في رحم وطن الشهداء .. أما أنتم فقد خذلكم خوفكم و جبنكم و عدم إيمانكم من استحالة سقوط وطن ..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية