تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


البنك الدولي يعيد النظر بالليبرالية ... هل يستفيد العرب من دروس التجربة?

دراسات سياسية
الاربعاء 9/11/2005م
ميخائيل عوض

دأبت المؤسسات الدولية, وذات العلاقة, ودور الخبرة الاقتصادية,

والسياسية على نقد سياسات صندوق النقد والبنك الدولي, وتفاهمات واشنطن, وبروتون ووردز, وزادت مفاعيل عملية النقد في السنوات القليلة الماضية, حيث جاءت آخر تقارير التنمية التي يصدرها البنك الدولي خاصة تقرير 2006 بمثابة ضربة قاصمة للفكر الاقتصادي الليبرالي, الذي اعتمد وسوّق وعمم خلال عقد الثمانينات وحتى الساعة.‏

الوقائع الصارخة, والأزمات المتفجرة التي ولدتها تلك السياسات وفرضها بالقوة وبمنطق العولمة, والتسويق الايديولوجي باتت تشكل عثرة قومية أمام تطور الاقتصاد العالمي وتحديدا الاقتصاد الرأسمالي وتذهب به إلى ما يشبه أزمة ,1929 وقد خلفت اضطرابات اجتماعية ونزاعات سياسية متفجرة في أربعة اتجاهات الريح, وأخذت تؤسس لحقبة من تصادم الضواري الرأسمالية بسبب الفوضى العارمة في السوق, والصراع على الموارد, والتسابق لحل مشكلات البطالة والفقر التي ضربت في دول الجنوب وأخذت تسحب نفسها إلى دول الشمال بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية كما كشفت عن وقائعها كارثة كاترينا وأرقام الاقتصاد الأمريكي الكلية, ولا يشفى منها اقتصاد الاتحاد الأوروبي وبلدانه مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا, التي باتت نخبها الحاكمة تعاني من أزمات مع الرأي العام بسبب اعتمادها وقبولها لتلك السياسات وفرضها في صيغة الدستور الأوروبي أو في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.‏

الآثار الكارثية لتلك السياسات باتت تتهدد الدورة الاقتصادية العالمية ومعها الاستقرار والتنمية, لكونها أدت إلى تمركز الثروة بيد فئة محدودة, وأضعفت القدرات الشرائية لمختلف القطاعات ما ولد أزمة انكماشية, وأزمة فائض للانتاج تهدد السوق والقدرات الإنتاجية, وتخلق حالة اضطراب في أسعار النفط, وفي العلاقات الدولية, بسبب فقدان الأسواق مع تصاعد دور الصين وبلدان آسيوية اختارت لنفسها طريقها الخاص للتنمية غير آبهة بنظريات وإيديولوجيات اقتصاد السوق الليبرالي.‏

المفارقة العجيبة أن يتحول صندوق النقد والبنك الدولي ومنظرو الاقتصاد الليبرالي عن نظرياتهم ويعاودوا البحث عن آليات وصياغات جديدة تؤكد على دور الدولة, والقطاع العام, بينما نسمع ونرى تنظيرات وممارسات من نخب ونخب نافذة في الدول العربية تروج عن جهل (بحجة المعرفة العلمية والتساوق مع التطور) لتلك النظريات البالية والفاشلة البائدة.‏

أمر غريب أن تذهب دول وإدارات عربية إلى تبني التخصيص وتقليص دور الدولة وحضورها بينما يعود البنك الدولي إلى اعتماد هذه القواعد والتوجهات الاقتصادية ويعتبرها شرطا لازما للتطور والتنمية واستمرار الاستقرار والنمو.‏

أفضل الشواهد, وأحسن الردود على منظري الليبرالية الاقتصادية العرب المستلحقون المتأخرون عما يجري في الفكر الاقتصادي والسياسي العالمي ما كشفه النائب الأول لرئيس البنك الدولي فرانسوا بورقيون في لقاء له عبر الأقمار الاصطناعية مع الصحف التونسية من فحوى مضمون التقرير السنوي للتنمية للبنك الدولي لسنة 2006 وأعلن عن تطور جديد في الفكر الاقتصادي الليبرالي المحافظ بنتيجة خلاصات البحوث الاقتصادية التنموية التي استغرقت سنوات أشرف عليها البنك الدولي, بمشاركته, تركزت على تحليل النتائج الاقتصادية في البلدان النامية للسياسات السابقة المقترحة من البنك وصندوق النقد الدولي ما بعد عقد الثمانينات التي سميت برامج إعادة الهيكلة الاقتصادية لهذه الدول, عبر اعتماد نظام اقتصاد السوق والانفتاح على الأسواق الخارجية وتوجيه القطاعات المنتجة نحو التصدير والارتباط بالطلب العالمي تنفيذا لبروتون ووردز ومقولات العلاقة بين النمو الاقتصادي والتجارة الخارجية, كمحرك أساسي للتنمية.‏

بعد 25 سنة من تطبيق تلك السياسات تبين للخبراء محدودية جدواها ونتائجها الكارثية التي ولّدت تنامي ظاهرة الفقر والبطالة, وتخليق الاضطرابات الاجتماعية وتوسيع الهوة بين طبقات المجتمع وتركيز الثروة, والإعلام والسلطة بيد قلة متنفذة كما أدت إلى تعميق الفجوة التنموية بين الشمال والجنوب.‏

تركزت النتائج الكارثية لتلك السياسات بصورة حادة في دول أمريكا اللاتينية والكاريبي وتتبدد آثارها التدميرية في الجمهوريات الآسيوية, وفي إفريقيا بينما خفف من وطأتها على بعض الاقتصاديات الآسيوية التي نجحت في نسج منوال تنمية (خاص) يتماشى ومميزاتها وظروفها ولا سيما التي رفضت وصفات صندوق النقد والبنك الدولي.‏

مجمل الإخفاقات والنتائج الكارثية التي ولدتها سياسات صندوق النقد والبنك الدولي, وتفاهمات واشنطن, وبروتون ووردز, وما أدت إليه من تشوهات هيكلية في الاقتصاديات الوطنية والعالمية, دفعت بالاقتصاديين المنتمين إلى الفكر الاقتصادي الليبرالي للبحث عن آليات وأدوات قادرة على دفع النمو والتنمية في بلدان الجنوب وتلك التي تأثرت تدميريا بتطبيقها للوصفات القديمة.‏

فجاء التقرير السنوي للتنمية لسنة 2006 كمحاولة لفهم الجاري, والبحث عن صياغات وتوجهات جديدة لمسيرة الرأسمالية تجنبها الكبوة التي عرفتها في أزمة ,1929 وتؤسس لنموذج تنموي جديد يقوم على الترابط والتكامل بين العدالة والنمو عوضا عن التجارة الخارجية والنمو.‏

أي المساواة في الحظوظ لجميع الأفراد واعتبارها عنصرا مندمجا في استراتيجية القضاء على الفقر من خلال الحق بالتمتع بخدمات التعليم والصحة والنقل للجميع.‏

تتساءل رئيسة قسم الاقتصاد في جريدة الصحافة التونسية قائلة: ولكن ماذا يعني هذا المفهوم وكيف يشكل تحولا في الفكر الليبرالي وتجيب: الفكر الاقتصادي الليبرالي تحتل السوق فيها دورا أساسيا في إدارة الحياة الاقتصادية وتوزيع الثروة, يحول دون تدخل للدولة لأنه يحدث اضطرابا ويضر بالتوازن الكلي.‏

وقد كان لهذا الفكر وسيادته دور بارز في تخليق أزمة 1929 التي لم تشف منها الرأسمالية لولا جون مينار كيتر الذي أحدث ثورة في الفكر الليبرالي من خلال الاعتراف بدور الدولة وفضلها في إدارة الحياة الاقتصادية كآلية لتصحيح مسار السوق, هي ذاتها التعاليم والوصفات التي انقلبت عليها الرأسمالية في العقد الثامن من القرن الماضي وما زالت سياسات موجهة لأكبر مؤسسة تؤمن بالليبرالية (البنك الدولي) حيث بدأت عملية مراجعة جذرية في الإعلان الجديد, انه لا مفر من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية, وإن آليات السوق غير قادرة وحدها على تأمين المساواة لجميع الأفراد.‏

فالطبقات الفقيرة, بحسب قانون السوق غير قادرة على الحصول على التمويل, وغير قادرة على المشاركة في الحياة السياسية, وغير قادرة على تأمين أبسط الحقوق الاجتماعية والإنسانية, وتحسين ظروفها, مايحتم دورا للدولة في تأمين التعليم والخدمات الصحية والعمومية. وهنا يبرز دور الدولة من خلال توفير الخدمات الأساسية للشرائح الاجتماعية الضعيفة كآلية تجنب تهميشها في صورة ترك إدارة الحياة الاقتصادية للسوق وآلياته.‏

الجديد في هذا الطرح هو إيمان الليبراليين بأنه لا يمكن تحقيق النمو الاقتصادي في البلدان النامية والفقيرة من دون عدالة ومساواة, أي من دون تدخل الدولة, فإبعاد الدولة عن الحياة الاقتصادية بتقليص الموازنة الاجتماعية والدفع نحو تخصيص المؤسسات العمومية الرابحة, لم يفرز سوى مزيد من الفقر والتهميش والأزمات الاجتماعية والاقتصادية وسلسلة الحروب الأهلية التي رافقتها أعمال إبادة جماعية, والتصادمات الوثنية والطائفية.‏

إخفاقات سياسات البنك وصندوق النقد الدولي, في مسألة إعادة الهيكلة وإطلاق عناصر السوق وتدمير الدولة, ودورها الاجتماعي والانتاجي التخطيطي لم يقتصر فقط على البلدان التي اعتمدتها وباتت في مهب الريح عرضة لأزمات شتى بل أيضا أدت إلى تداعيات الطرح الليبرالي لتحرير التجارة الدولية, والقول بقوتها لدفع التنمية وحل مشكلات البلدان النامية من خلال مزيد من استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر وانتصاب الشركات العالمية وما تؤمنه من نقل للتكنولوجيا والخبرة, فتلك مقولات لم تثمر بل زادت تهميش مكانة هذه البلدان في التجارة الدولية.‏

هل يتعظ بعض العرب فلا يذهب إلى الحج والناس راجعة, وهل يدرك من احتفظ بوعي مسبق بدور أساس للدولة خلال عقد الثمانينات والتسعينيات باعتباره شرطا تنمويا وأساسا في تصليب الصمود والمواجهة إن وجهته كانت هي الصحيحة, بشهادة الجاري من مراجعات, وأن عليه اليوم ألا يؤخذ بالحملة الإعلامية الايديولوجية لأنها فارغة المضمون ومكشوفة النتائج, وألا يذهب إلى الأزمة والسياسات التي أخفقت عند الآخرين بل أن يعمل على تعميق سياساته وتشذيبها لتكون نموذجا قويا يحتذى.‏

* كاتب لبناني‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية