تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في عتمة الليل.. يشوهون ذاكرة حمص ... اعدام بالجملة لأشجار معمرة 00 وقصر السيد سليمان مهدد بالهدم !

تحقيقات
الاربعاء 9/11/2005م
سوزان ابراهيم

ليلاً اغتيلت أشجار الأكاسيا الباسقة المعمرة في شارع الغوطة الشهير في

حمص قبل مدة قصيرة, وفي العام الماضي اغتيلت أشجار مماثلة في شارع حافظ ابراهيم,وفي العام الذي سبقه حدث الأمر عينه لأشجار شارع عبد الحميد الدروبي , أما التعليل فهو حرص المعنيين في المحافظة على إعادة تأهيل تلك الشوارع, لأن تلك الأشجار بات هرمة ومنخورة, بل وتخرب الأرصفة ولعل التبرير الأجمل, والأكثر )ضحكاً على لحى المواطنين( هو العمل على إيجاد حلول لأزمة المرور الخانقة التي تشهدها المدينة, والتي لن يفيد في حلها, حسب رأي المطلعين, إلا دراسة استراتيجية متكاملة ولحظ كامل البنى التحتية من أنفاق وجسور وممرات وشاخصات ومسارات وطرق تخديمية و. و ..إذاً ملايين الليرات تنفق, وربما تهدر, في حلول ترقيعية شدد السيد المحافظ مؤخراً على تجنبها والبحث عن أخرى استراتيجية. ونتساءل: أهي مصادفة أن يتم قطع الأشجار دوماً في الليل ! ليس هذا فحسب بل إن أوامر التنفيذ, ووتيرة العمل والآليات التي اعتدنا أن تكون دوماً بطيئة أو معطلة في تنفيذ كثير من مشاريع القطاع العام, تتفجر طاقاتها الكامنة حين يتعلق الأمر بقطع الأشجار فتراها تهدر غير آبهة بصراخ الأهالي وندب النساء لتتقدم تحت جنح الليل, الذي يتبعه يوم عطلة كما حدث في كل المرات السابقة,وتقتلع الجذور المنغرسة عميقاً و المتشبثة ليس بتراب حمص فقط, بل بذاكرة أهلها, فتحيل الجذوع المنتصبة إلى جثث هامدة تكفنها دموع كل الذين صرخوا ولم يستطيعوا شيئاً سوى صب اللعنات, والارتياب في النوايا والتي لا يشفع لها أي منطق في واقع الحال, وحين يشرق صباح جديد سيرى أهل حمص أن ثمة قطعةً حميمة من ذاكرتهم قد استبيحت بجرة قلم وأن سنوات كثيرة وربما كثيرة جداً لن تعيد ما كان. هل هذا كل ما في جعبتي ? كنت أتمنى أن لا يكون الجواب لا, لكن ما حدث في حمص يتكرر رغم كل الاعتراضات.‏

قصر السيد سليمان- صالة الشعب للمعارض-:‏

ها هم أدباء المدينة وفنانوها ولفيف من مثقفيها يستنفرون كل الأصوات , قبل فوات الأوان, ليقولوا لا لبعض النوايا (الحسنة ) التي تطالب بإقامة مجمع ثقافي فني في مركز المدينة, طبعاً هذا جميل لولا أمر واحد فقط .. فذلك المجمع سوف يقام, أو من المزمع إقامته, فوق أنقاض قصر السيد سليمان, أي بعد هدمه,و الذي يعود بناؤه إلى أوائل القرن العشرين— أي أن عمره يتجاوز 100 عام — لتسليط الضوء على الأمر التقت ( الثورة ) بداية الفنان التشكيلي محمود شيخاني عضو مجلس إدارة فرع نقابة الفنون الجميلة في حمص فقال: هذا الكلام يتداوله المثقفون و الأدباء في حمص منذ فترة قريبة, و ليس هناك ما يؤكد ذلك في الواقع أو ما ينفيه, لكن التجارب السابقة علمتنا أن نحتاط للأمر قبل وقوع الفأس في الرأس, فهدم بناء ما يشبه الموت إلى حد بعيد إذ لا حياة له بعدئذ. تعود أهمية البناء إلى ما يمكن تسميته بذاكرة المدينة الإنسانية وبشكل خاص ما يعنيه بالنسبة للأدباء والمثقفين والضيوف الأجانب فكل من له أصدقاء خارج سورية يصطحبهم إلى حديقة الفنون ( كما باتت تعرف ) البسيطة الهادئة الحافلة بالخضرة الطبيعية دون أي تدخل صناعي,( وحيث تنساب الموسيقا الكلاسيكية الخالدة , أو ألحان ( يوآلا ) عازف الغيتار المعروف في حمص مساء كل ثلاثاء, وبعض من الحمائم‏

البيضاء, وطيور البط أو الإوز ) وأضاف: إن كل ما يسير ضد المنطق يخبئ وراءه مصلحة خاصة, فالمنطق يقول بالحفاظ على هذا البناء القديم والعمل على توسيعه - إن أمكن - لا أن تتم المطالبة بإزالته فهو جزء من ذاكرة المدينة وقد حاولنا تحسباً لذلك رفع عريضة للسيد وزير الثقافة وجمعنا أكثر من 400 توقيع ريثما تتضح الأمور.‏

الأستاذ مصطفى العيسى نقيب الفنانين التشكيليين في حمص قال: كان البناء مستأجَراً من قبل مديرية التربية والنقابة, وفي عام 1981 وبمساعدة فرع الحزب والمديرية أصبح مقراً لنقابة الفنون الجميلة وصالة عرض للجمهور وهي أفضل صالة عرض في سورية بعد صالة الفردوس في دمشق التي تتمتع بنفس الوضع أي القرب الحميم من الجمهور فما على الشخص الذي يسير في الطريق إلا أن يدخل الباب ليصير داخل المعرض . لقد أنفقنا على المبنى حوالي مليون ليرة إلى الآن حتى صار بهذا الشكل واستغلت الباحة السماوية في الخلف كحديقة تستقطب الغريب والقريب, فحمص تخلو من مثل هذه الأماكن البسيطة المفتوحة ( باستثناء قهوة الروضة ) وهي منتدى أكثر منها قهوة عامة, فروادها خيرة المثقفين والأدباء ونؤمن لهم ما يناسب وضعهم الفكري والاجتماعي. لقد تم استملاك المبنى عام1976 بحجة إمكانية تحويله إلى مجمع ثقافي لأن الإستملاك لصالح النقابة بشكل مباشر ما كان ممكناً. يبدو أن هناك تهجماً الآن على الأبنية القديمة في المدينة. يمثل قصر السيد سليمان فترة معمارية ترجع إلى العهد الفرنسي وقد بدأت كل الأبنية المشابهة بالزوال من عدة مواقع قريبة من مركز المدينة نهائياً. نتمنى الحفاظ على هذا المبنى الجميل وإذا لم يكن هناك رصيد مالي لترميمه فإن النقابة على استعداد لترميم الطابقين معاً على نفقتها ليظهر بأجمل صورة وليبقى صالة عرض للأعمال الفنية ولتبقى الحديقة البسيطة المشهورة حتى في فرنسا وذلك من خلال الزوار الذين قصدوها وعرّفوا بها على بعض مواقع الإنترنيت لينصحوا كل من يقصد حمص بزيارتها.‏

وجهة نظر مديرية الثقافة:‏

قال الأستاذ معن ابراهيم مدير الثقافة المكلف في حمص: إن مديرية الثقافة تملك هذه القطعة من الأرض والبناء مستملك من قبل وزارة الثقافة. قمنا هذا العام بتوجيه كتاب لهيئة تخطيط الدولة للحظ مشروع بناء مجمع ثقافي في هذه المنطقة, وتمت الموافقة- مبدئياً- على رصد مبلغ 500 ألف ليرة لإعداد دراسات جدوى اقتصادية لهذا المجمع وتم رصد المبلغ في خطة عام 2006 أي سنقوم بدراسة أهمية مثل هذا المشروع العام القادم وعملياً سيتقرر بعد سنة الموافقة على ذلك أو الرفض وهذا كل ما حدث حتى الآن. وأسأله: لدينا في حمص مسرح دار الثقافة, ومركز ثقافي مجاور له وثمة مركز آخر يبنى قرب المدينة الجامعية(وبصراحة مطلقة أشهد أن رواد هذه الأمكنة التي كلفت الملايين الطائلة يعدّون على الأصابع وقد يتجاوزون ذلك في استثناءات معروفة ) فلماذا هذا المجمع ? ويجيب: نحن الآن سنبدأ بإعداد دراسات جديدة للوظيفة الفنية لمثل هذا البناء, لقد طلبت منا هيئة تخطيط الدولة إعداد دراسة جدوى اقتصادية للمشروع لتتم الموافقة عليه وتغيير الوظائف ( ??!! ) صحيح أن لدينا مراكز ثقافية ولكن قد نقوم بشيء مختلف تماماً عن مفهوم المركز الثقافي المألوف في هذا المجمع, قد ننفذ صالة عرض سينما ومسرح, قاعات محاضرات أو معارض. وأقول: هذا القصر يشكل جزءاً من ذاكرة المدينة! ويرد: لكن الكتلة الموجودة حوله من أبنية حديثة تجعله يبدو شاذاً في ذلك الشارع, ويستغرب مدير الثقافة موضوع ذاكرة المدينة,ثم يضيف: أنا شخصياً لا أتمنى أن يهدم ولكن.. , أسأله: أهل حمص يتهمون المديرية بتحريك الأمر ? فيقول: نحن أصحاب المبنى والمشروع, وأسأل نقابة الفنون الجميلة على أي أساس يتواجدون في هذا المكان, كيف دخلوه وهو لوزارة الثقافة ? وكيف يتم استثمار الحديقة كمقهى ? من هو صاحب العقد? وأتابع: هل هذا يبرر هدم بناء يزيد عمره عن 100 عام? ويجيب بتردد: لا ليس مبرراً لكن البناء يتساقط وخاصة الطابق الثاني , ويأتي السؤال الأخير: إذا تكفلت نقابة الفنون الجميلة بترميمه هل يتوقف المشروع? لا لن يكون هناك إيقاف للمشروع, القضية أننا سنقوم بإعداد دراسات لمجمع ثقافي وهي مجرد رغبة وليس من شيء على أرض الواقع ولم يتم رصد المبلغ حتى هذه اللحظة.‏

بصراحة لا تبدو إجابات السيد مدير الثقافة مترابطة ولا مطمئنة. ماذا يهم رواد المكان إن كانت نقابة الفنون هي من يستثمر الصالة والكافتيريا أم مديرية الثقافة? ولعله نسي أن الجهتين تتبعان لوزارة واحدة ( أي من العب للجيبة ) ! لو عاد أحدنا إلى ذاكرة بعض من عاصروا حمص قبل 50 عاماً أو أكثر لشعر بغصة وحسرة. الثورة التقت الأستاذ فيصل شيخاني الباحث في تاريخ حمص- والذي يشكل ذاكرة متنقلة تستوعب الكثير الكثير من أحداث حمص وتاريخها وشكل حاراتها القديمة, فهو قد تجاوز السبعين عاماً أو أكثر - فقال: كثير من الأبنية القديمة هدمت في حمص أذكر منها قصر الدروبي في شارع عبد الحميد الدروبي - مقابل قصر السيد سليمان موضوع هذه المادة - الذي بني على طراز الروكوكو الأوربي وقد نزل فيه محمد علي باشا الصغير المؤرخ كما نزله أحد رؤساء سورية والمندوب الفرنسي وشخصيات أخرى. كان القصر غاية في الجمال والروعة واستعمل كمديرية للتربية عشرات السنين وقد قام السيد ماجد الموصلي بالحصول على قرار بإدخاله بالبنية التراثية المستديمة وكان من المزمع تنفيذه يوم السبت, لكن آليات الهدم كانت أسرع فدمرته ليل الخميس أواخر الثمانينات ( ما أشبه الأمس باليوم ! ) وللقصر صورة في متحف الآثار الإسلامية في حمص وقد رآها وفد من السودان جاء زائراً فاستغربوا وجود صور لقصر باريسي جميل في حمص هذا قبل أن يعرفوا أن القصر كان أحد أبنية حمص, وذكر الأستاذ شيخاني أن أحد المهندسين والذي افتخر بأنه أول من ضرب فيه معول الهدم قال: لا يجوز الإبقاء على هذه الأبنية الأوربية, فرد عليه: هل يتوجب على الإسبانيين هدم كل ما بناه العرب في الأندلس ? ويتذكر قصر السيد سليمان - المزمع إزالته ما لم تتلطف عناية وزارة الثقافة به - ويقول: إنه البقعة الوحيدة المضيئة الباقية في ذلك الشارع , ثم يذكر سينما فاروق - البناء الموجود عند ناصية شارع الدبلان - التي كانت أول سينما ناطقة في حمص وظلت تعمل حتى منتصف الستينات وكانت تعرف بسينما أمبير ثم فاروق ثم الأمير وهو مهجور ومهدد بالهدم وثمة أماكن أخرى لو أراد المعنيون الحفاظ عليها لسردها الأستاذ شيخاني بكثير من التفصيل, ويأمل إعادة بناء بعض معالم المدينة القديمة في مشروع المدينة السياحية التي ستقام في حمص وبخاصة قصر شمسي غرام ( الصومعة ) قصر الدروبي, قيادة الموقع, التكية المملوكية والاهتمام بالباب المسدود وإعادة الحياة للمهن اليدوية المعروفة فيه, وأضاف منذ عديد من السنوات شكلت لجنة لحماية المدينة وكنت عضواً فيها لكني لاحظت أن كل مشاكل الهدم تصدر عنها. كنت أصرّ على الإكثار من استعمال الحجر الأسود في الأبنية الحديثة ولقد قلت ذات يوم مازحاً: لقد اختصت بلدية حمص بهدم الآثار وقطع الأشجار وهو يذكر كيف قطعت الأشجار الأجمل في كثير من شوارع المدينة واعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر .‏

وأقول: أراهن بكل ما أملك وهو ليس قليلاً ( راتب أدفع ثلثيه تقريباً أقساطاً شهرية, و دوري المسجل لدى سادكوب لتعبئة برميل من المازوت ) بأن المواطنين يعذرون كل المسؤولين أصحاب القرارات في المحافظة- التي أثبت الواقع غالباً فشل معظمها - لماذا !! لأن أي مسؤول بينهم لم يمش يوماً تحت ظلال تلك الأشجار,ولم يستنشق أريج أزهار الأكاسيا, ولم يسمع زقزقة العصافير التي تأوي إليها كل مساء, ولم يشعر بالرعب الذي أحسته العصافير التي خربت أعشاشها,ولا سمع بكاء السكان الذين ودعوا جزءاً حميماً وغالياً من ذكريات الماضي,بل حتى أنه لم يتنفس الهواء - غير المكيّف - الذي يعرفونه, لذا يعذروهم جميعاً ففاقد المعرفة بتلك الأشياء الصغيرة لا يستطيع تقدير قيمتها لدى هؤلاء الذين عافوا- راضين أو مضطرين - المكاتب الفخمة, والسيارات الفارهة, والهواء المكيّف, والعمارات العالية, بل والفنادق والمقاهي ذات النجوم الكثيرة, وفضّلوا فنجاناً من القهوة في حديقة الفنون البسيطة. هذا ليس شعراً ولا رومانسية, لكنه الواقع الذي يعيش المواطن كل حيثياته كل يوم وكل الأيام , فهلا تركتم له بعض ما يحب..أم ستبقى حمص هادمة الآثار, وقاطعة suzani@ ">الأشجار!!‏

suzani@ scs-net.org‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية