|
متابعات سياسية إن العلاقة بين الإرهابيين وبين المخابرات المركزية الأمريكية ليست بالعلاقة السهلة التي تربط بين العملاء ومشغليهم كما يتصوّر البعض . فليس كل إرهابي عميلاً وظيفياً للمخابرات المركزية الأمريكية بالضرورة . ولكن ثمة نوع من العلاقة يمكننا فهمه بشكل أدق إذا نحن قارناه بالقصة النمطية التي كنا نسمعها من جداتنا عن الشاطر حسن والغولة , حيث يؤدي الإرهابي دور الشاطر حسن , بينما تؤدي المخابرات المركزية الأمريكية دور الغولة . يذهب الشاطر حسن محاولاً الوصول الى هدفه الصعب المتمثل بالوصول الى «ست الحسن» . وعند مفترق طريقين لا يعرف أيهما طريق السلامة وأيهما طريق الندامة ستعترضه الغولة . وسيهجم الشاطر حسن ملقياً السلام عليها وملتقطاً ثديها ليرضع منه , فيصير بذلك ابناً لها . وتقول له أمه الغولة « لولا سلامك سبق كلامك لكنت أكلتك وقرقشت عظامك » . ثم تقوم بإرشاده الى طريق السلامة وإعطائه النصائح التي تمكنه من الحصول على « ست الحسن » . لنعترف أن من وقعوا في يد المخابرات المركزية الأمريكية كانوا في الأصل والأساس مشاريع مجاهدين , وكانوا يأملون في أن يؤدي كل واحد منهم دور الشاطر حسن في بحثه عن ست الحسن في قصرها النائي البعيد . ولكنهم في اللحظة التي اعترضتهم فيها الغولة سينقسمون الى نوعين : نوع يابس الرأس لايعرف كيف يتدبر أمر الغولة فتقتله وتقرمش عظامه , ونوع آخر يبادرها بالتحية ويرضع من ثدييها فيصير ابناً لها , وتدله على الطريق الذي يسلكه . من هذا النوع الثاني يوجد الآن في الساحات بالفعل عشرات الشطار الذين ما كان لهم أن ينجوا من التعذيب , وأن يخرجوا من أسر الغولة , وأن يتحولوا الى قادة , وأن يرتفعوا الى أمراء وحتى الى أدعياء خلفاء , لو لم يرضعوا من حليب الغولة , ويصيروا أبناء لها . ولعل هؤلاء يعتقدون بينهم وبين أنفسهم أن ما حدث لا يغير من الأمر شيئاً : فالشاطر حسن هو الشاطر حسن والغولة هي الغولة , والمهم أن الهدف الأساسي في الحصول على «ست الحسن» لم يتبدل !!. أميركا التي تتحدث من حين الى آخر عن ملف التعذيب وكأنها تسعى الى استدرار العطف على مَن عذّبتهم لا تقترب مطلقاً ولا يمكن أن تقترب من ملف الشطار الذين رضعوا حليب المخابرات المركزية الأمريكية فصيّرتهم قادة لتنظيمات إرهابية, ولعلها تتستر أيضاً على من قتلتهم وأكلتهم وقرقشت عظامهم تحت التعذيب أو بوسائل أخرى لأنهم رفضوا الرضاعة من ثدييها , فأمثال هؤلاء التعساء لا ذكر لهم البتّة وكأنه لا وجود لهم البتة . وهي لا تريد أن تفسّر لنا بأيّ حال من الأحوال كيف دخل الشطار من بينهم الى غرف التعذيب التي لا تطاق وخرجوا بريئين من كل علة جسدية أو عقلية , بل إنهم دخلوا جهاديين عاديين بسطاء ذوي خبرات محدودة وخرجوا قادة فعليين قادرين على إدارة آلاف أو حتى عشرات الآلاف من المقاتلين في أعقد الميادين . ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية على لسان الإرهابي المدعو أبو أحمد عما كان يحدث في سجن بوكا جنوب العراق , وكيف أن قادة داعش تخرجوا من ذلك السجن , يميط اللثام عن جزء من الحقيقة , وليس عن الحقيقة كاملة . فسجن الغولة في بوكا { أو بوقة أي الخيانة والغدر } كان بمثابة ملجأ آمن للإرهابيين . وهناك في ذلك الملجأ الآمن التقى مع زعيمه الحالي أبي بكر البغدادي , وأن البغدادي كان غامضاً ومختلفاً عن بقية المعتقلين !!. لعل أبا أحمد أراد بهذه العبارة الأخيرة أن يلمّح الى أن الشاطر حسن «البغدادي» قد رضع حليب الغولة أو يحتمل أنه رضعه . لكنه لم يشأ بالتأكيد أن يقول ما كان يدور بينه شخصياً وبين ضباط المخابرات المركزية في السجن . ومن يدري لعل بعض هؤلاء الضباط كانوا يتظاهرون ليس فقط بأنهم مسلمون , ولكن أيضاً بأنهم سلفيون وجهاديون , وأن التعامل معهم , والاستفادة من قدراتهم وخبراتهم من شأنها أن تقود الشطار الى طريق السلامة بدلاً من أن يسلكوا طريق الندامة. وبالفعل , فإن سجناء بوكا دخلوا السجن ربما كمقاومين للاحتلال الأميركي ولكنهم – أو بعضهم على الأقل – خرجوا منه إرهابيين من الطراز الأول. ما هي الأساليب التي اعتمدتها المخابرات المركزية أو الغولة مع الشطار؟ . لا المخابرات الأمريكية مستعدة للكشف عن هذه الأساليب ولا الشطار مستعدون للتحدث عنها والاعتراف بأنهم رضعوا حليب الغولة . كلا الطرفين يفضل التستر على ما حدث . فاعتراف الغولة بالحقيقة يعني أمومتها للإرهاب, واعتراف الإرهابيين بالحقيقة يعني اعترافهم ببنوتهم للغولة . وإذا كان هذا الإنكار أو التنكر يخالف منطق الحكاية الشعبية حول فضل الغولة في تمكين الشاطر حسن من الوصول الى القصر الذي تقيم فيه ست الحسن , فلأن «ست الحسن» في الحكاية الجديدة هي «ست القبح» أو لأن نموذج الشاطر حسن الجديد جرى إقناعه باستبدال ست الحسن الدنيوية بحوريات الجنة , فصار عبداً لرغبته في الوصول الى الحوريات حتى ولو بنسف القصر الذي تسكنه ست الحسن بعد أن كان هم الشاطر حسن الأصلي هو التواصل معها وإقناعها بمرافقته . ولأن سكة السلامة توصل الى ست الحسن الدنيوية كما صوروا له الأمر بينما سكة الندامة توصل الى الحوريات السماويات , فقد اقتنع الشاطر حسن حتى بسلوك طريق الندامة , وبدفع الأثمان الباهظة المنتظرة من وراء سلوك هذا الطريق !! نحن إذن أمام قصة معقدة , وأساليب مدروسة ومحسوبة , وما كان لها أن تؤدّي الى النتائج الفظيعة التي نتابعها منذ أكثر من عقد من الزمن وأن تتفاقم على نحو مروّع إلا لأن عدوّنا يسخر العلم في خدمة حربه علينا , حتى وإن كان هذا العلم يبحث في كيفية استغلال الحكايا الجميلة والطريفة التي كانت ترويها لنا جداتنا في تحويل أناس منا يتلمسون السبيل الى تجاوز الواقع الذي هم فيه الى مشاريع شطار يرضعون ثدي الغولة الأمريكية , ويصيرون أبناء لها بالنتيجة . |
|