|
شؤون سياسية هذه القناعة التي ترسخ الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للتخلي عن الحليف مهما بدا مقرباً منها ومهماً لها إذا شعرت أن دعمه يسيء إلى مصالحها أو يتعارض معها تعارضاً جماً أو طفيفاً. كان حريّاً به أن يصل إلى تلك القناعة منذ اليوم الذي أحجمت فيه الإدارة الأمريكية عن مد يد العون ليبقى قائداً للجيش الباكستاني, إضافة إلى بقائه في سدة الحكم رئيساً لبلاده, وقد بدا واضحاً أن زيارته الوداعية لبعض قطعات الجيش الباكستاني آنذاك كانت في حقيقة الأمر زيارة وداعية لمنصب الرئاسة, وكانت مسألة مغادرة كرسي الحكم مسألة وقت ليس إلا. يومها تذرعت الإدارة الأمريكية في تبريرها التقصير في دعمه بالحجة التي تستلها دوماً كلما وجدت نفسها محشورة في زاوية ضيقة, ألا وهي حجة الحرص على الديمقراطية, والغريب أن (واشنطن) لم تتذكر الديمقراطية وخوفها الشديد عليها إلا بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على جمع الرئيس مشرف بين منصبي رئيس البلاد وقائد الجيش. يوم كانت راضية عنه كانت ترى فيه الحليف الأساسي في حربها المعلنة على الإرهاب, وكان هذا الحليف يزور (واشنطن) فينزل على قلب الإدارة الأمريكية نزول الماء البارد في حلق الظمآن, وتستغل كل زيارة كان يقوم بها لتغدق عليه عبارات المديح والثناء مهللة بعزمه المتوقد في استئصال رأس أفعى الإرهاب قبل أن ينتشر سمها في تلك المنطقة الحساسة من العالم. وعندما قررت سحب بساط الدعم من تحت قدميه, رأت في بزته العسكرية والأوسمة والنياشين التي تزين صدره بها, عبئاً على الديمقراطية وإساءة إلى سمعتها كدولة تنصب نفسها محامية أولى في العالم الحر للدفاع عن الديمقراطية وقيمها. وبدأ المراقبون السياسيون يفهمون منذ تخلي (مشرف) عن منصبه العسكري أن كرسي الرئاسة أخذ يهتز تحت قدميه وأنه موشك على السقوط عما قريب, ثم توصل المراقبون إلى هذه القناعة, بعد وقوع حادثتين مهمتين في مسيرة الحياة السياسية الباكستانية. الأولى اغتيال رئيسة الوزراء السابقة وزعيمة حزب الشعب السيدة (بنازير بوتو) قبيل الانتخابات الباكستانية الأخيرة, وقد غضت (واشنطن) الطرف إعلامياً عن تلك المنابر الإعلامية التي أشارت إلى (مشرف) بأصابع الضلوع في عملية الاغتيال أولاً, وعرقلة قدوم لجنة دولية للتحقيق في الاغتيال خشية كشف الحقيقة عن ملابسات مصرع (بوتو) ثانياً. الثانية الانتخابات الباكستانية التي تمت بعد اغتيال (بوتو) والتي بدا واضحاً فيها أن ظلّ (مشرف) السياسي آخذ في الانحسار والانكماش لصالح خصومه السياسيين الذين أعلنوا منذ اليوم الأول لظهور نتائج الانتخابات أن العلاقة مع الرئيس (مشرف) ستكون علاقة الند مع الند وأن حبل المودة معه قابل للانقطاع كل لحظة. استشف المراقبون من هاتين الحادثتين أن عهد الغزل بين الإدارة الأمريكية والرئيس (مشرف) ولى إلى غير رجعة, وأن الرجل أصبح عارياً من الناحية السياسية وهو الذي بادر إلى وضع كل مالديه من بيض في السلة الأمريكية, ناسياً أو متناسياً أنها سلة مثقوبة عاجزة عن حماية بيضه أو حمايته شخصياً. الآن رحل الجنرال الباكستاني السابق وأصبح الرئيس السابق بعد أن وجد نفسه مضطراً لتقديم الاستقالة, لأنه شعر أنه أصبح وحيداً في الساحة, تاركاً خلفه الملفات التالية: - علاقة ليست على ما يرام مع الجار اللدود الهند, ويمكن وصف هذه العلاقة أنها متأرجحة بين الرغبة في طي صفحة الماضي والنفور المتجدد من تلك الرغبة, لأن النزاع على إقليم (كشمير) مستمر إلى أمد طويل نسبياً, ولا تلوح له آفاق حل على المدى المنظور. - ملف الشراكة الاستراتيجية مع الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب , وقد بدت (واشنطن) منزعجة من الشريك الباكستاني بعد أن أثبت عجزه عن تقديم شيء ذي بال في هذه الحرب, (فطالبان) باكستان لا تخفي تعاطفها الشديد مع (طالبان) أفغانستان, ومنطقة »وزير ستان« أصبحت كابوساً يؤرق الإدارة الأمريكية وحلف (النيتو) لأنها تشكل خلايا نائمة ومستيقظة لكل من يناصب (واشنطن) العداء. - علاقة متذبذبة بين الجودة والرداءة مع الجار القلق (أفغانستان) التي لا تخفي انزعاجها من الدعم المتدفق من الأراضي الباكستانية (لطالبان), التي تمد سلطتها على مزيد من الأراضي الأفغانية يوماً بعد يوم. - ملف العلاقة السيئة بين الرئاسة الباكستانية والأحزاب الدينية في البلاد, تلك الأحزاب التي اشتكت على الدوام من قبول (مشرف) بدور العصا التي تلوح بها (واشنطن) لتحقيق أهدافها في هذه المنطقة التي تضم خليطاً شديد التنافر من القبائل والقوميات والإثنيات والمعتقدات. هذه الملفات التي ستكون بانتظار الرئيس الباكستاني القادم ليس بمقدور الأحزاب الحالية التصدي لها, لأنها ملفات معقدة إلى حد كبير, وسيكون الرئيس الجديد محتاجاً إلى الدعم الداخلي والخارجي إذا أراد التصدي لها, وفي كل الأحوال فإن المهمة أمامه ستكون عسيرة بلا أدنى شك. |
|