تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


السينما والحلم والمونتاج

ملحق ثقافي
25/3/2008م
كريستوفر براي ترجمة:د. علي محمد سليمان

كثيراً ما عبر سلفادور دالي عن آراء و مواقف متناقضة حول الفن. ورغم التناقض، عدم الدقة والغرائبية أحياناً فيما كان يعبر عنه من أفكار وآراء،

إلا أن سلفادور دالي كان في كثير من الأحيان يستطيع إضاءة ماسحات مجهولة من طبيعة الإبداع الفني في علاقته بوعينا وطريقة ممارستنا وتذوقنا له. ولعله بسبب تلك الطليعة المتناقضة والحرة لآرائه وأفكاره، استطاع هذا الفنان أن يطرح أسئلة جريئة، ربما لم يكن النقد الأكاديمي قادراً على طرحها عبر منظومته العقلانية والنظرية المتماسكة.‏

لنأخذ مثلاً تأملات وآراء سلفادور دالي فيما يتعلق بفن السينما. يرى دالي أن السينما هي الوسيلة الأكثر فعالية للتعبير عن العقل النائم أو عالم اللاوعي. لكنه في الوقت نفسه يقول إن السينما لا يمكن لها أن تكون في أي حال من الأحوال شكل فني جمالي مستقر! إن السينما – حسب دالي – شكل تعبير ثانوي لأنه عمل جماعي يتطلب إنتاجه مشاركة عدد كبير من العاملين، وهو بذلك لا يعبر عن صوت فردي. و يقارن دالي ذلك بفن الرسم الذي يعتبره الفن الحقيقي الوحيد لأن كل ما يتطلبه هو فرشاة وعين الفنان، حسب تعبيره. ولعل أي شغوف بفن وأعمال مبدعين مثل بيتهوفن أو شكسبير سيعارض آراء دالي هذه بشدة. ولكن لنتساءل بهدوء، أليس في ما قاله دالي شيء من الحقيقة إذا ما نظرنا اليوم إلى واقع السينما وحالة مبدعيها؟! إن غياب تلك الشخصية الواضحة وتلاشي ملامحها الخاصة عن أغلب مخرجي السينما يجعل من تساؤلات و تشكيك دالي مشروعة وراهنة إلى حد كبير. لقد كان دالي رغم ما عبر عنه من مقولات متناقضة مفتوناً وشغوفاً بفن السينما، فهو ولد وعاش في السنوات التي ولدت فيها السينما وقدمت للناس دهشة جديدة وإمكانيات تعبير مغايرة. ولد سلفادور دالي عام 1904، فكان عاشقاً للأفلام الصامتة التي أنتجتها هوليوود في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين. لقد أعجب بتوم ميكس أول كاوبوي تبدعه الشاشة الفضية وكان متأثراً حد الشغف بأدولف منجو الذي استلهم منه صورة شاربيه الكبيرين. لكن أكثر ما شغل دالي وجذبه هو الكوميديا الصامتة التي أبدعها هاري لانغدون، تشارلي تشابلن وهارولد لويد. لقد كان دالي ابن عصره الذي عشق هؤلاء الفنانين. هل يمكن للسينما أن تكون شعراً؟ كان هذا السؤال يسيطر على كل مقاربات سلفادور دالي للفن الجديد الذي بدأ صامتاً. إن النظر إلى شيء معين ورؤية شيء آخر تماماً هو نقطة الارتكاز في حساسية دالي النقدية التي صنعت اسمه وحولته إلى ظاهرة. إن هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء يمكن تحسسها بوضوح في العديد من لوحات دالي التي تعبر عن شيئين متناقضين في نفس الوقت. وتبقى قضية أن الصور في لوحات دالي هي تعبير أو إنعكاس لعالم اللاوعي مسألة لم يحسمها النقد بعد، خصوصاً أن الفنان الإشكالي نفسه غالباً ما أدلى بتصريحات وقام بسلوك يشوش على أي مقاربة نقدية علمية. إن سلفادور دالي يقول مثلاً: إن الفارق بيني وبين رجل مجنون هو أنه لا أنا ولا هو مجنونان!! لقد اعترف سلفادور دالي بتأثير سيجموند فرويد على حياته المهنية ورسمه، لكن الحقيقة تقول إن إنتاج دالي الاستثنائي كان نتيجة لعبقريته في الرسم أكثر مما كان نتيجة لتفعيل عالم اللاوعي وانعكاسه في أعماله. إن ذلك الإنتاج الفني العبقري كان نتيجة لشخصية فردانية نرجسية بشكل استثنائي. وهنا تحديداً يمكن تفسير شغف دالي بالسينما رغم اعتراضه أحياناً على تصنيفها كفن مستقل. إن الصور السينمائية لا يمكن حسب دالي إلا أن تكون لقطات متفرقة من أحلام وليس أي شيء آخر. لا يمكن حتى للصورة الثابتة أن تكتسب أي قيمة موضوعية أو تعبيرية إلا كونها شذرات من الأحلام. لقد أوضح السينمائي الروسي العظيم سيرغي أيزنشتاين أن جوهر السينما يكمن في تلك الحركة من لقطة إلى أخرى، و ليــس في اللقطة ذاتها. إن قدرة الفيلم السينمائي على مزج وتوحيد لقطات متنوعة ومتناقضة في كينونة موحدة و متحركة تشكل المعادل البصري لمفهوم هيجل للجدل. هل كان دالي على معرفة بأفكار أيزنشتاين المعقدة؟ لا يبدو الأمر كذلك! ولكن رغم عدم توفر هذه المعرفة النظرية فإن دالي قد مهد بما قام به من ثورة في رسمه ولوحاته إلى تلك الثورة التي أدى إليها المونتاج في السينما. إن في أعمال دالي رؤية ثورية لإمكانات المونتاج، وهذا ما كان على السينما العالمية أن تستثمره لاحقاً. إنها حساسية سلفادور دالي الفريدة وقدرته على النظر إلى شيء معين ورؤية شيء آخر تماماً في نفس الوقت. وربما هذه الحساسية بالذات هي التي أفضت إلى أهم الإبداعات السينمائية. و ربما أخيراً يمكننا القول إن السينما المعاصرة بحاجة إلى ثورة تعيدها إلى طبيعتها الأصلية في أن تكون صوراً من الأحلام!! ناقد بريطاني. مقطع من دراسة نشرت في مجلة نيوستاتمنت البريطانية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية