|
ملحق ثقافي الجاهلي والبدائي والعدمي، سيرة الشاعر وهو يكتب قصيدته، يأتي الشاعر إلى الكتابة عارياً من كل تراكمات الوعي، من كل ما حمله معه من إرث القراءة منذ (علمه بالقلم) وحتى لحظة كتابته للقصيدة، ليخرج ذلك البدائي، البدائي الذي يحمل معه الشعر،
البدائي القادم من اللاوعي، من الذاكرة الأولى، ذاكرة الكون بوصفها الذاكرة الوحيدة للشعر قبل أن يباشر الشاعر شغله الواعي على قصيدته. يدرك خضر الآغا بحدسه الشعري، أن للشعر منطقة شديدة الخصوصية وشديدة الحساسية، منطقة لا تشبه ما لباقي فنون الأدب، منطقة خارجة عن التصنيفات، منطقة للتجلي وللكشف، منطقة للمغامرة وللتجريب، وكأن الشعر هو المكان الوحيد حيث يمكن للشاعر أن يمارس كل غواياته، كأن الحياة بالنسبة لخضر الآغا هي مجرد افتراض بينما الشعر هو الحقيقة، لهذا يصح القول فيه /الآغا/ إنه اثنان، واحد في الحياة وآخر في القصيدة: «كيف أعرف إذاً، أن الذي ينمو علي كالندم هو الرجل البدائي- بدء الشعر وحارسه البدائي دم محمول على كل العصور إرث الريح النرد الذي سقطت منه الطبيعة ألم يصيب الكتابة كلما سمته الكتابة البدائي الذي أنا: وردة مصابة بجثتها». ومنطقة الشعر أيضاً لخضر الآغا هي منطقة الغرائز، هناك يستطيع أن يلاعب قصيدته كما يحلو له، قصيدته/ أنثاه، وكأن الأنثى التي يريدها هي أيضاً اثنتان، واحدة في الحياة والثانية في الشعر، والثانية هي الحقيقة حتماً ما دامت الحياة مجرد افتراض، بهذا المعنى تصبح الأنثى/ القصيدة تشبهه، بدائية وجاهلية مثله تماماً، تدخل معه في العماء ويتحولان معاً، ويصبح هو هي بقدر ما هي هو. لهذا يعلن افتراقه عن الآخرين؛
فأثناء عملية تحوله إلى الـ (هي) يستدعي ما يستطيع من صفاتها ليلبسها ويخضع راضياً لمزاجها ويتباهى بما تركته أنثاه/ قصيدته فيه من أنوثة ممايزاً ذاته الشاعرة عن ذوات الآخرين: «هنا: شعراء يجلسون في المقاهي يشكلون القصيدة تحت الطاولة فنتهتك، أنا – أنا الخارج عنهم - والشعر شعراء: يسحبون الماء من القصيدة ينظفونها تماماً من اللغة شعراء: يهدرون الأنوثة والإشارة في الإناء المعدني للمعنى ويسفحون - بين أرجل الكراسي – الكتابة». ذاته الشعرية الخاصة تتحقق إذاً في اللغة أولاً، اللغة الرطبة، الطرية، البعيدة كل البعد عن اللغة المعدنية للفحولة الشعرية، هو منشق إذاً عن أبناء جنسه من الشعراء، انشقاقه صريح وواضح ولا التباس فيه، انشقاق في فهمه للشعر وفي فهمه للغة الشعر وفي فهمه للكلام/ معنى الشعر: «الشكل – كي تتزيّ القصيدة بأيائلك تدخل غرفة النوم تخلع رداءها الذي لك فأتحلل في سرتك التي: على جسدها الشكل: لنشبهك أنا والكتابة والنساء جميعهن و.. المعنى أيضاً». ومنطقة الشعر أيضاً عند خضر الآغا هي منطقة النار الأولى، الاكتشاف أولاً والدهشة ثانياً، ومن ثم الحدوث؛ ففي منطقة النار يضمن الآغا لقصيدته أن تبقى نابضة دائماً، متوترة وقلقة ومستعدة لمواصلة إنتاج نفسها من جديد ولكن بكلام/ معنى مختلف، فكما اكتشف البدائي النار ورقص مبتهجاً باكتشافه ثم استخدم اكتشافه ليستمر كنوع، اكتشف الآغا أنه كبدائي، سيرته محفورة على جدران اللغة، عليه أن يؤسس في المعنى، وعليه أن يقول عن الشعر وفيه ما لم يقل سابقاً.
ثمة وظيفة إذاً للشعر عند خضر الآغا، ثمة وظيفة للغة أيضاً، فعلى الاكتشاف ألا يضيع في نشوة الدهشة، بل عليه، كمكتشف، كما سلفه البدائي، أن يحافظ على النوع، ليس البشري بل الشعري الذي يبشر به، وعلى الشعر أن يخرج نهائياً من بلاط العمائم وربطات العنق والسيف والترس، على الشعر أن يخرج من سطوة المعنى كما يقول، وعلى الشعراء أن يصلوا بقصائدهم إلى اللامكان أولاً، في هذا اللامكان سيولد المعنى المغاير، المعنى الذي سيغير الذائقة، والذي سيشتغل على الوعي البشري ليصبح الشعر بديلاً عن الواقع المعاش، بعد أن كان مجرد وسيلة لاكتساب العيش. بهذا المعنى يعيد خضر الآغا سيرة الشاعر الرائي، بهذا المعنى أيضاً تظهر بقايا (الأدونيسية) إن صح التعبير في فهمه لوظيفة الشعر، وبالتالي في بعض استخداماته اللغوية لإكمال هذه الوظيفة: «يخرج التاريخ من قلعته ومن كتابه يطرد الملوك الذين، على صفحاته، يتجولون بحاشيتهم وأسلحتهم وملامح القتل الراسب كالكلس في وجوههم ينزع عنه بزته العسكرية ويقفان وجهاً لوجه: التاريخ محمولاً على الدم والشاعر كشاف الفضيحة». غير أنه يعود من جديد ليسترجع السيرة الأخرى، المشابهة والمغايرة؛ المشابهة من حيث أن الكشف والرؤية أهم وظائف الشعر؛ والمغايرة من حيث أنثوية اللغة وابتعادها عن الفحولة التي تستلزم الدخول الكامل في متن الحياة. فباختياره، الواعي، لأنوثة لغته الشعرية، ينحاز الآغا إلى الشاعر المنعزل، الذي لا يرى إلا في قصيدته، الذي لا يعنيه ما يختلف حوله الشعراء في يومياتهم، الشاعر المحسوس، الثاني الموجود في الشعر وليس الأول الموجود في الحياة، الشاعر المنشق ليس كفارس يمتشق سيفه ويخرج عن القبيلة، بل كبدائي «صورته على جسد القصيدة/ رسم بدائي على جدران الكهف» وكمحض هامشي، بيد أن حضوره في القصيدة وحدوثه في العالم استثنائيان: «يحدث أن يعثر المرء في جسمه على بقعة وحشية يحدث أن يعثر على قطعة مجتثة من العماء لكنها تتشكل للتو حين ما قد يحدث فإنها: لغته لغة مقطوعة من الأرحام لا إرث لها ولا تاريخ». وكصديق لامرئ القيس والمتنبي وأبي العلاء المعري وولت ويتمان ولوركا وأوكتافيو باث، كما يصرح خضر الآغا، فهو يعتقد أنه أحد حراس القصيدة، وعليه أن يحميها من المتطفلين والمدعين والمخادعين؛ فغواية القصيدة لا تكون إلا لشاعر نادر مثله، وبهذا أيضاً يستعيد الآغا سيرة الشعراء النرجسيين، حيث الشاعر ينحاز إلى ذاته أولاً، وثانياً وثالثاً وربما رابعاً، قبل انحيازه إلى شاعر آخر. وهذا ليس ضد العزلة التي يروج لها ولا ضد المحسوسية، وإنما نزوع قوي نحو الإخلاص للقصيدة والتفرغ الكامل لها والتشبه بها. فلكي تكون قصيدته استثنائية، عليه أن يكون استثنائياً، والمعادلة المعكوسة صحيحة أيضاً في هذه الحالة، ثمة تلاحم كامل إذاً بين الاثنين، الشاعر وقصيدته. لهذا يبدو خضر الآغا من شعراء جيلنا القلائل في قصيدة النثر القادرين على كتابة القصيدة بهيكليتها الشعرية كبنيان وعلاقات لغوية وخيال وتجريب في قلب القصيدة الواحدة، يعرف كيف يبدأ ويعرف كيف ينتهي، ولا يهم ما يحدث بين البداية والنهاية، المهم أن القصيدة ممسوكة بين يديه بدراية واضحة رغم كل قلقه وتوتره وشكه باكتمالها: «أن أنفض الزحام عن دماغك وعن ثيابك الهواء الفادح أن أمحو الآخرين عن ظلك وارتدي، في مناخك، عباءة المجوس أن أفرش جسدي سجادة لقدميك وأضعك في مزهرية الشك وردة ممسوسة بالخطر ذلك: حدث تابوي». خضر الآغا في (الجاهلي الذي أنا) من منشورات وزارة الثقافة 2008، يؤكد مجدداً أن الشعر لا يقف عند أحد، ولا ينتهي بانتهاء جيل ما، الشعر تواصل وإغواء القصيدة سوف يتبعه الشعراء الحقيقيون. |
|