تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مهرجان

ملحق ثقافي
25/3/2008م
قصة: سمر الشيشكلي

كان المشهد حافلاً، زاخراً بالألوان والأصوات والحركة. باعة محلات عامرة تغص ببضائع متنوعة جلبوها أو جلبت لهم من كل حدب وصوب,من شرق وغرب,من شمال وجنوب.

وباعة جوالون على عرباتهم بزينتها الصارخة, يهتفون لجلب الزبائن, ويسعون جاهدين لإغراء الزبون منهم بشتى الطرق, بدءاً بتملقه, إلى تقديم أسعار تنافسية، مروراً بامتداح البضاعة بما فيها وبما ما ليس فيها ... وترى السوق يعج بالناس في يوم المهرجان هذا، فرادى وجماعات، يتدفقون من كل حدب وصوب، الحي الشمالي، الجنوبي، الشرقي،‏

والغربي،يستمتعون،يتعارفون،يشترونويبيعون,يعقدون الصفقات,المبادلات,وحتى الزيجات بعض الأحيان... كلٌّ يحمل معه أحلامه، آماله، طموحاته، ومخاوفه. يوم يمكن لك أن تتوقع اللقاء فيه بكل ما في العالم من إثارة .. كان يوم مهرجان السوق هذا يوماً للتواصل وتبادل المنافع والخبرات .. أو هذا ما افترضه من ابتدعه وعين له زمانه ومكانه .. حتى صار طقساً من طقوس الحياة نفسها .. إنها ساعات الصباح الأولى .. اكتظت الساحة بالناس،وصلوا تحملهم دوابهم بأمتعتهم وبضائعهم وحتى أطفالهم.. ...لأن للمتعة حظ كبير في هذا المهرجان .تنتشر عربات المآكل والمشارب والحلويات, تتصاعد روائحها الزكية كأصابع سحرية تستهدف بندائها الكبار والصغار. ولم ينقص المهرجان وسائل التسلية والمتعة من أراجيح والعاب خفة. امتزج العمل والمتعة, وبدت حركتهما متشابكة متصاعدة الوتيرة باقتراب الظهيرة حين بدأ وصول زعماء الأحياء المختلفة أخيراً في عربات تجرها البغال .. وكان لوصولهم صخباً مميزاً عن كل صخب المكان.. وكانت البغال بالذات بسبب وعورة الدروب الجبلية التي ينزلون منها كل عام، وكذلك بسبب قدرتها على حمل الأحمال الكبيرة التي يرجعون بها، والتي لا يقدر عليها سوى البغال في مثل تلك الدروب. وعند انتصاف النهار، يجتمع الزعماء والوجهاء في مجلس خاص له بابان متقابلان، وبلا نوافذ، يدخل من جهة الجنوب زعماء الأحياء الجنوبية، ومن الباب الشمالي زعماء الأحياء الشمالية. هناك من يقول إنهم يدخلون ذلك المجلس للراحة من عناء الطريق وقيظ الظهيرة. غير أن آخرين يشككون في ذلك ويرتابون بأمر دخولهم!!! وهناك من لا يعلمون شيئاً عن ذلك كله ولا يهتمون بمعرفة أي شيء. ولكن ما يتفق الجميع عليه هو أن“ لكل مقام مقال”. وكالعادة، اصطفت بغال كلا الطرفين في الخارج تنتظر. وكالعادة أيضا كانت بغال الجنوب في حالة مزرية من التعب والتعفير بغبار الطرقات الوعرة.. يبدو عليها الهزال والضعف، مع البلادة والخمول في بعضها الآخر، حتى إنها تعجز عن دفع الحشرات المتكاثرة عليها، تأكل جلودها وتسبب القروح في أجفانها ... والغريب أنها مع كل هذا وأكثر منه .. مستمرة في الحياة .. تسير وتحمل وتتحمل من الإرهاق والقسوة والألم ما لا يمكن لأحد تحمله,إلا بقدرة قادر ... نظرت تلك البغال إلى نظيرتها الشمالية ... التي كانت تحتل الطرف الآخر من الساحة .. وبعيونها الكليلة المتقرحة رأتها خيولاً تتقافز تيهاً وعجباً .. ورأتها وقد قفزت بالأجراس على قلنسوتها الأنيقة الغالية الثمن .. التي تحجب عن عينيها ضرر وإزعاج كل من الشمس والحشرات صاح أحد البغال إعجاباً : • انظروا ما أجملها .. ما أقواها تلك الخيول المملوءة عافية هتف آخر رافعاً رأسه والحشرات تطن من حوله • أكيد يطعمونها اللوز والسكر .. همس آخر تكاد عظام صدره تشق جلده من هزال .. • أوافق أن أدفع نصف عمري لأعيش نصفه الآخر في مكانها.. • انبرى آخر وكأنه يقرأ خبراً في صحيفة ولكن الأحرف كانت تخرج من فمه مبتورة .. كان قد فقد معظم أسنانه من ضربة تلقاها من صاحبه ذات يوم لأنه ركب رأسه ورفض أن يسير بالحمل الثقيل الذي ربط إليه .. ومن يومها لم يعد يخطر على باله الحران أبداً .. • إنها خيول حرة .. تقوم بمهمات اختيرت لها بمنطق حكيم وإنسانية عالية .. لتنطلق بعدها تعيش حياتها .. كل شيء متوفر لها .. إذاً لمَ الخوف ولمَ التعب انحشر بغل متوسط العمر قليل النظر بسبب سوء التغذية حتى يكاد لا يرى طريقه .. لا يرى أمامه غير خيال باقة البرسيم التي تتأرجح في الأفق دائماً .. قال بحماس هامساً : •يقال يا أصحابي أن الحصان فيهم هو من يختار صاحبه بإرادته!!! في يوم معين من كل عام يجتمع الناس والخيول وينتقي كل واحد منها من يخدمه وفق عقد بشروط تضمن للحصان حقوقه وسعادته ..!ساعات عمل محدودة مكافآت سخية, عناية طبية وإجازات استجمام سنوية مدفوعة التكاليف....سكن نظيف مريح,و تقاعد مضمون... •أو يعقل هذا يا صاحبي ؟! لم أر في حياتي كلها .. بل لم أسمع من أبي ولا من جدي أن حصاناً اختار صاحبه فضلاً على كل الامتيازات التي تذكر!! .. هذه أسطورة يروج لها مغرضون .. أرجوكم دعونا في حالنا لا تفسدوا علينا حياتنا .. وعقولنا ...الرضا بالمقسوم جنتنا... وراح يهز ذيله يهش به الحشرات التي تكاثرت عليه . • تحدث بغل في طور الشباب الأخير .. " انظروا إليهم لا حشرات تنغص عليهم حياتهم, ولا رمد في عيونهم يضعف أبصارهم .. ولا جوع يفسد عليهم عقولهم, ولا سياط تسلخ ظهورهم!!!!. في الطرف الآخر, انتبهت بغال الشمال إلى جلبة تصدر من جهة الجنوب,لم يتمكنوا من الرؤية لاستطلاع الأمر, فاضطروا للاستدارة حتى يروا سببها .. فقد كانت القلنسوة الخاصة بالبغال, والتي تحجب جانبي الرؤية تعيقهم .. انطلقت همهما تهم مستغربة .. مستنكرة ... متهكمة ... •انظروا إلى تلك البغال المسكينة ..المقرفة • ما بالها .. لمَ هذا حالها .. لم أر في حياتي أشقى مظهراً منها !! رد واحد آخر مستديراً برأسه إلى جهة أخرى: • أوه .. لا تكترثوا لها ... خلقت هكذا... .كسولة.....غبية ..... حمقاء ...إنها لا تستحق الحياة بكل الأحوال ....لو أعطيت الفرصة لهاجمتنا وقتلتنا...فلتبق في ضعفها وبلادتها هذا أسلم لنا....ألم تسمعوا عنها؟؟!! إن أصحابنا يدفعون لأصحابهم لقمع شرورهم عنا....شتان ما بيننا وبينها....!!!! عادت بغال الشمال إلى الاستدارة بكامل جسمها حتى استطاعت أن تشيح بأنظارها عن مرمى بغال الجنوب ..لتتابع ازدرادها للعشب الأخضر الطري الذي حمل خصيصاً لها. انتبهت مجموعة من البغال الجنوبية الفتية إلى حركة جسم بغال الشمال هذه .. نظروا إلى بعضهم بدهشة .. والآخرون منشغلون بين منبهر ومتحسر ولا مبالٍ غارق في حشراته وهمومه... راح كل من هذه البغال الفتية ... يفكر ... يحلل ... ازدادت حدقات أعينهم اتساعاً .. لم تكن بعد كلت من مرض أو طول زمن القسوة والقهر ... صاح أحدهم بدهشة بالغة : انظروا .. إنها ليست جياداً ..!!انظروا إلى ذيولها !!!! دوت العبارة مثل انفجار كبير أعقبه صمت وذهول ....ثم اخترق الصمت تعليق خرج خجولاً حذراً ... • إيه واللـه ... إنها ليست جياداً ... • إنها بغال مثلنا .. مثلنا تماماً .. اضطرب جو المكان بالهمهمات بادئ الأمر .. ثم بالصيحات من هنا وهناك .. بعضها لم يرقه التصديق والتسليم بسهولة: • ما هذا الهراء .. صرتم تكفرون بكل الحقائق .. ما هذا الجيل !! • كفاكم تشدقاً .. هل الحال التي نحن فيها تجعلنا ننكر الحقائق ؟! لماذا؟ لكي نسكت عما نحن فيه؟! لا تخافوا تعودنا السكوت والخنوع..... • هتف أول الناطقين بحماس : • ألم يخطر ببالكم ما فائدة هذه القلنسوة التي يضعونها لهم على رؤوسهم ؟ إنها تغطي طرفي زاويتي الرؤية ! إنهم لا يكادون يرون إلا الطريق التي يدفعون إليها ... ومواطئ أقدامهم , و معالفهم.. كفاك هراءً أتمنى لو كنت معهم .. تصوروا !! ياااه !! ازداد اللغط والجدل .. في الطرف الآخر كان واحد من البغال الشمالية ينصت باهتمام .. قال في نفسه • فعلاً إن هذه القلنسوة تضايقني .. لا أستطيع الرؤية بحرية.. لهؤلاء الأغبياء فائدة أحياناً .. راح يهز رأسه ويعالج القلنسوة بالجدار حتى استطاع نزعها .. أدار رأسه ذات اليمين وذات الشمال....أخذ نفساً عميقاً ثم شهق بنشوة الاكتشاف.. • اللـه!!!! ... إنه مشهد مختلف تماماً .. يا ااه .. هذا المدى الواسع !! يا إلهي....كم فاتني من معرفة هذا العالم!! انتهره أصحابه وحذروه أنه سيصاب بصداع أو أنه سيؤذي عينيه... حذروه من مغبة التأثر بأولئك البغال الجنوبيين الأغبياء, ولكنه لم يعرهم بالاً .. كان في البداية مأخوذاً بما سنح أمامه من مدى.....ثم بدأ يتبين معاني جديدة لما انكشف له مع ضوء النهار واتساع إدراكه باتساع مدى الرؤية عنده.... ثم بدأت علامات الصدمة تنتابه ....حاول إخوانه مساعدته على لبس القلنسوة من جديد...ولكن هذا تسبب في ألم أكبر بكثير من ألم الضوء الذي حجب عنه منذ وعي العالم حوله بهذه القلنسوة.....حتى بدا له من المستحيل إعادتها إلى مكانها على رأسه .. بل ما عاد يريد هذا.... تركه رفاقه وشأنه .. وابتعدوا عنه ليحمل وزر ما يقوم به وحده. و بقي هو يطالع المشاهد حوله بذهول ....وبدأ يفهم... ما لبث أن انفض اجتماع أصحاب البغال الشمالية والجنوبية وخرج كل قوم من الباب المخصص لهم .. رأى الجنوبيون الفوضى في صفوف بغالهم والغبار يملأ الجو, وسمعوا اللغط .. فارتفعت سياطهم]تلسع الظهور والرؤوس , فانكمش الجميع في زاوية السوق ليُسحب بعد ذلك كل واحد فيهم مطأطئ الرأس.ثم يُشد إلى عربته ليسوق أحمالاً تهد حيله في طريق العودة المسائية ... صامتاً ... والرؤوس مترعة بأحمالها الخاصة ..تنوعت من رأس إلى آخر.. بعضها يحلم بالبرسيم الأخضر الطازج .. وبعضها بالراحة بعد العناء .. وبعضها بحلم محال بأن يكون في مكان بغل شمالي .. و بعضها بالموت!!!! .. أما في الطرف الثاني فكانت الأمور أكثر هدوءاً ونظاماً..... أوكلت الأحمال إلى البغال السعيدة .. وسارت في الطريق التي وجّهت لها .. بقي البغل الذي نزع قلنسوته .. نظر إلى صاحبه مستغرباً : • أتراني اخترت صاحبي هذا حقاً ؟! ..محال !!ليس هو !! لقد خدعت !! إنه ليس هو !! إذاً الأمر ليس إلا خدعة كبرى!!! رفع صاحبه القلنسوة من على الأرض يريد إعادتها له على رأسه, لضبط أعراض الحران التي ظهرت عليه . تراجع البغل الشمالي إلى الوراء معارضاً .. فما لبث صاحبه أن تركه قائلاً له: • أيها الأحمق .. لم تعد تصلح لي .....لم تعد تصلح للعيش في الشمال...لم ولن أحمل سوطاً لضربك...لقد استبدلنا هذه الوسيلة من زمن بعيد... ابتعد عني ... تحرك الركب بعيداً أعلى الطريق تاركاً البغل لذهوله وحيرته..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية