|
ملحق ثقافي تجاوز المكان والزمان واللغة والعقيدة والشكل واللون إلى فضاءات أخرى تقوم على التجربة الشعورية القائمة فيما وراء المحدود والمعدود. ورغم ذلك فإن النِّفَّري لم يختر الصمت، ولم تبقَ أمامه إلا اللغة، وسبل التعبير اللغوي كانت راسخة ومقوننة في زمانه، فهنالك الشعر والنثر الذين وصلا إلى قمة تطورهما وازدهارهما في عصرٍ عرف المتنبي وأبا تمام والجاحظ، إلا أن النِّفَّري لم يقنع بأساليب التعبير السائدة لأن سعة رؤياه كانت تضيق أمامها كل عبارة، فسعى إلى جعل اللغة تعبِّر عما لم تتعود التعبير عنه، وجاء أثره الأهم "المواقف والمخاطبات" من خلال علاقته المتوترة مع اللغة، ليكمل بذلك الثورة التي قام بها المتصوفون الكبار في مجال اللغة، ولتصل تلك الثورة على يديه إلى ذروة نضجها واكتمالها، تاركاً لنا نصوصاً سبقت عصرها ومعاصريها. فيما وراء ألواح نيبور بدأت رحلة النِّفَّري من بلدة "نِّفَّر" الصغيرة الواقعة في جنوب العراق، وهي نفسها مدينة نيبور السومرية العريقة التي كانت فيما مضى العاصمة الدينية والحضارية للسومريين، والتي أصبحت فيما بعد مركزاً للديانتين المانوية والمسيحية. وعلى الرغم من أن نِّفَّر الإسلامية لم تكن بعظمة نيبور السومرية فإن الإستمرارية الحضارية في تلك المنطقة لم تنقطع في يوم من الأيام، فليس من المصادفة أن الجنوب العراقي ممثلاً بمدينتي الكوفة والبصرة كان المهد الذي نشأ فيه الإسلام كحضارة من خلال التلاقح والتفاعل الحضاري بين ما حمله المسلمون معهم من جزيرتهم وبين ثقافات المنطقة القديمة والمترسخة، كما أنه ليس من المصادفة أن التصوف الإسلامي قد نشا في تلك المنطقة، ومن هنا يمكننا أن نستشف مصادر تجربة النِّفَّري، التي ضمت بالإضافة إلى التصوف الإسلامي المؤثرات الثقافية المترسبة من الحضارات الرافدية القديمة، ومؤثرات الديانة المانوية التي كانت لا تزال في عهد النِّفَّري ديانة سائدة تمتلك العديد من الأتباع، هذا فضلاً عن المؤثرات الفارسية والهندية التي كانت حاضرة بقوة في تلك البقعة الخصبة الأرض والتاريخ.
استوعب النِّفَّري كل تلك المؤثرات واستطاع تجاوزها تجاوزاً إبداعياً، فأسلوب الشطح الصوفي الذي أسسه البسطامي ووصل به الحلاج إلى مرتبة رفيعة من التطور متجاوزاً أساليب التعبير المألوفة في اللغة العربية، هذا الأسلوب دخل مع النِّفَّري مرحلة جديدة من تطوره، إذ أخلى الأسلوب الرمزي المجازي في الشطحة الصوفية مكانه على يديه ليُحِل محله أسلوب التداعي الحر للرؤى والأفكار والأخيلة. ولكن النِّفَّري لم يتتبع خطى التصوف الإسلامي دائماً، فتأثير التصوف الهندي كان واضحاًً عليه من خلال رفضه لفكره وحدة الوجود التي كانت معالمها قد بدأت تتضح على يد الحلاج، وهكذا لم يقبل بإحلال العالم الروحاني في الطبيعة بل كان ينفي العالم المادي برمته بأسلوب صوفي متطرف، ويدعو إلى الاستنارة الروحية الخالصة بطريقة تقرِّبه كثيراً من البوذية. وقد تدعَّمت عناصر التجربة الصوفية لدى النِّفَّري بالمثنوية المانوية، حيث تحفل نصوصه بذكر الثنائيات والمتضادات (النور والعتمة، الليل والنهار، الحياة والموت...الخ)، ولكن النِّفَّري تجاوز صراع الأضداد المميز للفكر المانوي والمترسخ في التراث الديني الفارسي، ليصل إلى ((استواء الأضداد)) ففي لحظة الرؤيا الصوفية عند النِّفَّري تذوب الفوارق بين الأشياء، وتتحطم كل المتضادات: ((وقال لي إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب)). ماذا أراد النِّفَّري أن يقول؟ أراد النِّفَّري أن يقول ما لا يمكن أن يقال (أو ما لا ينقال حسب تعبيره) باللغة المألوفة والمعتادة مهما سمى أسلوبها الأدبي، وإذا كان الحلاج من قبل قد توقف عند إظهار الحدود بين ما يمكن أن يقال وما لا يمكن قوله، مكتفياً بالوصول إلى أعلى درجات ما يمكن أن يقال، والتلميح فقط إلى درجات الرؤيا الصوفية العليا التي لا يمكن التعبير عنها باللغة: ((من وصل إلى النظر استغنى عن الخبر، ومن وصل إلى المنظور استغنى عن النظر)) (طاسين الفهم)، فإن النِّفَّري قد غامر بمحاولة التعبير عما لا تستطيع اللغة العادية التعبير عنه في التجربة الصوفية، وهنا يقع النِّفَّري في أزمة عميقة مع اللغة، فهو يرفض الإمكانية التعبيرية الاعتيادية للحروف والكلمات: «وقال لي لا تسمع فيَّ من الحرف ولا تأخذ خبري عن الحرف. وقال لي الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني». ويقول أيضاً: «وقال لي العبارة ميل فإذا شهدت ما لا يتغير لم تمل». ويرفض النِّفَّري أيضاً أسلوب التعبير المجازي: «وقال لي الواقف لا يعرف المجاز، وإذا لم يكن بيني وبينك مجاز لم يكن بيني وبينك حجاب». ثم يبرز النِّفَّري مشكلة اللغة في العرفان الصوفي، فإذا كانت اللغة أسلوباً مقونناً للتعبير عن الأشياء الجزئية المحدودة عن طريق حصرها ضمن مسميات ومفاهيم ذهنية- لغوية، فكيف يمكن لَيّ عنقها للتعبير عن اللامتناهي واللامحدود، الذي يعد الوصول إليهما أساساً لكل تجربة صوفية؟ يقول النِّفَّري : «وقال لي إذا خرجت عن الحرف خرجت عن الأسماء، وإذا خرجت عن الأسماء خرجت عن المسميات، وإذا خرجت عن المسميات خرجت عن كل ما بدا». وهكذا لم يبق أمام النِّفَّري إلا التحايل على اللغة وعبارتها، ومحاولة تحطيم معقوليتها ومنطقيتها، وجعلها سلما للوصول إلى ما يتجاوز اللغة وما يتجاوز العبارة، يقول النِّفَّري في (موقف ما لا ينقال): ((أوقفني في ما لا ينقال وقال لي به تجتمع فيما ينقال. وقال لي إن لم تشهد ما لا ينقال تشتتَّ بما ينقال.)) وهكذا تكتسب اللغة (أو ما ينقال) عند النِّفَّري مشروعيتها التعبيرية الوحيدة عن التجربة الصوفية من خلال استنادها إلى (ما لاينقال)، فاللغة هنا ليست الغاية بل هي الواسطة، الواسطة التي يمكن اعتبارها شراً لا بد منه، والتي تحطمت الكثير من خصائصها المعروفة من خلال دلالتها على (ما لا ينقال)، فالكلمات هنا لا تدل على الأشياء، بل هي طريقة للخروج من الأشياء ومن (كل ما بدا). في نصٍ تتكسر فيه حدود الأشياء وتتساوى الأضداد، فيبتدئ بالشيء وينتهي إلى نقيضه خلال سيرورة حرة من التداعي، بهذه الطريقة نجح النِّفَّري في الهروب من أسر البنيات اللغوية التي تؤلهها الفلسفة المعاصرة: (وقال لي إذا جئتني فألق العبارة وراء ظهرك، وألق المعنى وراء العبارة، وألق الوجد وراء المعنى). الأساليب التعبيرية عند النِّفَّري في العمل الأهم والاشهر للنِّفَّري (المواقف والمخاطبات)، لا نجد أنفسنا أمام نصٍ شعري أو نثري، كما أننا لا نتعرف فيه على مظاهر النص الفلسفي الذي يلجأ إلى الطرق العقلية والبرهانية الصارمة، إننا هنا أمام نصوص لا نظير لها في التراث العربي باستثناء طواسين الحلاج، ولكن إذا كان الحلاج قد لجأ في طواسينه إلى الأسلوب التعبيري المجازي الرمزي الشديد التكثيف، واعتمد على السجع والمحسنات البديعية، بالإضافة إلى إيراد بعض الأبيات الشعرية والآيات القرآنية، فإن النِّفَّري قد سعى إلى إحداث أسلوب مبتكر تماماً، فنرى أن نصوصه خالية تماماً من السجع والمحسنات البديعية والنظم الشعري، وهي خالية أيضاً من الاستشهادات القرآنية باستثناء جملة قرآنية واحده هي: (ليس كمثله شيء) وردت كثيراً في نصوصه، وبما أن النِّفَّري رفض الأسلوب المجازي كما قلنا سابقاً، فقد اعتمد على اسلوب التداعي الحر للأفكار والرؤى، حيث تتدفق العبارات والكلمات لديه بسلاسة شديدة من دون أن يعيق تدفقها أي قيد اسلوبي، ولكن هذا لا يعني أن نصوص النِّفَّري خالية تماماً من المجازات والرموز، وإنما يعني أن الرمز والمجاز لا يحتلان مكان الصدارة لدى النِّفَّري كما كان سائداً عند غيره من المتصوفين، الذين دمغ الرمز والمجاز كامل أسلوبهم حتى أصبحا العنصر الأساسي في أعمالهم، أما النِّفَّري فقد اندغم لديه الرمز والمجاز في البنية الانسيابية للتداعي الحر فأصبحا واحداً فقط من العناصر العديدة التي تسري في النص. ويمكن إيجاز الفارق بين طواسين الحلاج ومواقف ومخاطبات النِّفَّري بأن الأولى هي مجموعة من الألغاز المستغلقة التي على القارئ أن يحلها. أما الثانية فهي فضاء شعوري لامتناه يتيح للقارئ السباحة الحرة في مداه، ولكن هذا لا يعني أنها سهلة التناول والإدراك بل ربما هي أكثر استغلاقاً وغموضاً من طواسين الحلاج، فطبيعتها الإنسيابية في المعنى والمبنى تتركها مفتوحة بشكل واسع وكبير على تعدد الدلالات والتأويلات. فهل يمكننا القول إن النِّفَّري كان رائداً لقصيدة النثر في التاريخ العربي؟ إن تعامل النِّفَّري مع اللغة ومحاولاته إيصالها إلى فضاءات جديدة غير مألوفة تقع وراء التوضعات التقليدية للحرفية والمجازية، وتحطيمه لقيد الأسلوب لمصلحة حرية التداعي، جعل نصوصه ميادين إبداعيةً مفتوحةً تتداخل فيها حرارة الشعر مع انسيابية النثر، ولذلك فيمكن للكثير من الأدباء المجددين في مختلف الميادين أن يروا في النِّفَّري أستاذاً وسنداً عميقاً لهم من التراث، شريطة أن لا يتم إهمال البعد التاريخي لنصوص النِّفَّري، وألا يتم إسقاط هموم الحاضر الأدبية على تراث الماضي الإبداعي. ونختم بإيراد مقاطع من (موقف من أنت ومن أنا) بعد تقطيعها بشكل يشبه تقطيع قصيدة النثر المعاصرة، آملين ألا يكون ذلك تعدياً على هذا النص الرائع: «أوقفني وقال لي: من أنت ومن أنا ؟ فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار. وقال لي: ما بقي نور في مجرى بحري إلا وقد رأيته. وجاءني كل شيء حتى لم يبق شيء فقبل بين عينيَّ وسلم عليَّ ووقف في الظل. وجاءني كل شيء وفي يده حربة، فقال لي :اهرب فقلت: إلى أين؟ فقال: قع في الظلمة فوقعت في الظلمة فأبصرت نفسي فقال لي: لا تبصر غيرك أبداً ولا تخرج من الظلمة أبداً فإذا أخرجتك منها أريتك نفسي فرأيتني وإذا رأيتني فأنت أبعد الأبعدين». |
|