تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المشهد العراقي بعد الانتخابات..!

دراسا ت
الأربعاء 23/2/2005م
د. سعيد مسلم

يبدو ان السياسة الامريكية بعد 11 ايلول 2001 تأخذ بمصطلح جديد عنوانه (الفوضى الخلاقة) ليس في منطقتنا العربية فحسب, بل في كل بقاع العالم, وصولا الى اعادة بناء هذا العالم بعد تهديمه كليا وجزئيا..!

والهدم الامريكي كما هو ملاحظ, يطال اولا الكيانات الكبرى من الداخل حيث تبدأ عملية الهدم الاجتماعي والاقتصادي والفكري , ثم الكيان السياسي برمته, انتقالا الى اقامة التحالفات والكيانات المصغرة, لتطالها يد الهدم من جديد, بعد ضربها بعضها مع بعض, وازاحة كل عوامل ارتباطها, لتذهب بذلك مفاهيم الاقطاب- الاتحادات الكبرى- الاوطان- الدول, وتحل محلها مفاهيم الاحزاب المتناحرة الطوائف- الاثنيات المعتقدات والاديان .‏

تدعي السياسة الامريكية انها حالة طبيعية (للديمقراطية) الوافدة, وتعويض بغياب الدساتير الوطنية ,سعيا لفرض اسرائيل ونظامها السياسي في منطقة تواجه مشروعها العدواني ويلفظها الجسد الذي زرعت فيه !‏

المشهد العراقي اليوم, كما هو مع اول ايام الغزو الامريكي للعراق يرسم بكل وضوح تفاصيل هذه السياسة وعلاماتها الفارقة, بدءا من هدم العراق اجتماعيا واقتصاديا عبر سنوات الحصار والضغوط , وصولا الى هدم الدولة العراقية وكيانها السياسي بكل ما انجزت خلال عقود والعمل على تفتيت الوحدة السياسية والاجتماعية والفكرية , حيث مئات الاحزاب اليوم والجمعيات والتجمعات, ومئات الجماعات والمكاتب التجارية لصناعة الازمات والحروب وورشات عمل دائمة لاجهزة الاستخبارات والجواسيس , كل ذلك بدلا من الدولة الواحدة- الشعب الواحد وباختصار- بديلا ( للعروبة) (الامة) (السيادة ).‏

ورغم حالات التخبط العسكري في العراق, هاهو المشهد العراقي بعد الانتخابات (الفصل الجديد في سيناريو السياسة المشار اليها) ها هو يدلل بكل وضوح على النوايا الامريكية ويكشف ألاعيبها الخادعة, فبعد الترحيب والتهليل وقبله التهديد للجوار بشأن ضرورة انجاح هذه الانتخابات, تنتهي تلك الانتخابات لتظهر لنا دلائل دامغة على المساعي الامريكية ليس في العراق فقط, بل في العالم اجمع .‏

انتخابات جرت وسط منافسات قيل عنها انها الاكثر ديمقراطية في تاريخ العراق (طبعا لان الغائب عنها اسم الوطن وسيادته وتراثه).‏

صناديق اقتراع حملتها الى مواقعها دبابات امريكية وسيارات مصفحة , شوارع خاوية وانفجارات مدوية, قوائم انتخابية حملت ارقاما لتختصر تاريخ العراق والمنطقة بالارقام بدلا من التراث والتاريخ..‏

مراقبون دوليون بالمئات يرصدون تلك العملية من عاصمة بلد آخر ورغم كل ذلك أقر العالم بهذه الحالة الانتخابية وساعد في نجاحها, على اعتبار انها خيار سياسي ولو كان ناقصا .‏

ومع فرز الاصوات تبدأ الحملات الاعلامية الامريكية بارسال اشارات لفريق العمل الهدام من اجل متابعة عمله فبعد هدم كيان الوطن , جاء دور هدم التحالفات والكيانات الصغيرة التي بقيت او ظهرت ضمن عملية اعادة البناء المشار اليها في بداية حديثنا .‏

واصبح الحديث يدور عن انقسامات او تكتلات طائفية ومذهبية وسواها, بل تعدى ذلك الى ضرب التحالفات مع بعضها البعض اولا, وكل تحالف بمفرده تمهيدا الى حالة الهدم الجديدة المراد الوصول اليها.‏

ولم يخف السيد اياد علاوي هذه الظاهرة حيث عبر مؤخرا عن قلقه بشأن تزايد النزعة الطائفية على توجهات العراق المستقبلية!.‏

اضافة الى ذلك تحاول وسائل الدعاية توسيع الشرخ بين اركان الكيان الواحد, حيث تظهر مرشحين ضمن ائتلاف واحد وبتوجهات متناقضة, فهذا مع ايران وذاك ضدها, الآخر مع امريكا وغير ذلك وفي كل هذا استمرار لسياسة الهدم.‏

وليس ذلك فقط بل راحت وسائل الدعاية والاشارات لتدلل على خلافات جوهرية في التوجهات المستقبلية للعراقيين( رغم نتائج الانتخابات ). حيث الخلاف على صياغة الدستور ومن سيشارك فيه, وهل سيقاطعه غالبية من لم يشاركوا بالانتخابات .‏

وحول شكل النظام السياسي القادم ودور الدين والعروبة فيه ?! وكذلك حول قضية الاحتلال واستمراره والجدول الزمني لخروج قوات الاحتلال بين مؤيد ومعارض , وبين ما يسمى الحاجة والضرورة!.‏

وحول شكل التحالفات القادمة, ومعالم المرحلة الجديدة!.‏

وبكل الاحوال فإن المشهد العراقي اليوم بعد الانتخابات يؤكد اننا دخلنا مرحلة جديدة من المساومات والمماحكات وتوزيع المناصب, مرحلة مفتوحة على كل الاحتمالات , حيث لا يستطيع اي طرف بمفرده السيطرة على الحياة السياسية كونه لم يحصل على ثلثي المقاعد في الجمعية الوطنية الانتقالية .لتبدأ صراعات الشخصيات مع بعضها البعض حتى داخل الحزب الواحد او الائتلاف .‏

وتبدو التوازنات التي افرزتها الانتخابات وكأنها تقود الى حالة من الشلل السياسي, لأنها افرزت رغم تعدد القوى المشاركة بها نتائج غير متوازنة اذ حصدت ثلاثة تكتلات غالبية المقاعد بينما التكتلات الاخرى حصلت على مقاعد لا تتجاوز في عددها اصابع اليد الواحدة.‏

وتبدو معالم المرحلة الجديدة معقدة والاحتفال الذي اعقب النجاح بتنظيم الانتخابات متسرعا لان الجروح بدأت تظهر اثارها, وشكل الدستور الدائم الذي سيتم التوصل اليه في اطار الجمعية الوطنية يبدو غامضا, كذلك مستقبل الوجود العسكري الامريكي في البلاد, والاهم من ذلك غياب المشاركة السنية وحتى قسم كبير من العراقيين!!.والاهم انها فتحت شهية القوى الاخرى على زيادة حصتها في الكعكة العراقية .‏

والاخطر من كل ذلك محاولة تصدير الحالة العراقية مباشرة الى اجزاء اخرى في المنطقة تحت ستار الديمقراطية والاصلاح وضمان حفظ حقوق الانسان بما يعني ان هذه الحالة الهدامة تهدد كل دول المنطقة.وتجعل المستهدف الاول والاخير هو (الامة- الوطن- العروبة) بكل ما تتضمنه هذه المفاهيم من اسس ومرتكزات,وطبعا بما يعزز الفرص لان تكون اسرائيل كيانا اساسيا فاعلا وليس هامشيا غريبا في المنطقة .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية