|
صفحة ساخرة ذات القياسات المختلفة، يقطعها ويثقبها ويحفها ويسوي أطرافها على هيئة رسومات جميلة، وبالنظر إلى أن صوت الآلات كان يملأ المكان فقد أشار إلي بيده أن انتظره حتى يفرغ من شغله. وفجأة انقطع التيار الكهربائي، فتوقفت الآلات مصدرة صوت (بب) أبو عمر لم يغضب ولم يعلق على ذلك بل التفت إلي وقال:والله هؤلاء الجماعة أوادم. قلت: أي جماعة؟ قال: جماعة الكهرباء أنا مثلاً أعاني من وجع في الظهر وانقراص في الفقرات الرقبية، ومكان عملية الفتاقة يؤلمني، وبصري يشبه العنب (الحفرزلي) الناعم، وعندي قرحة في المعدة..باختصار أنا مثل السيارة المتعرضة لحادث اصطدام وجهاً لوجه! ومع ذلك حينما أكون منسجماً بالعمل أنسى أنني تعبان فإذا قطعوا التيار من دون إحم أو دستور فإنهم بذلك يفرضون علي أن أجلس وأرتاح وأتفرغ لطق الحنك. ونادى على صانعه «أبو محمود» وطلب منه أن يسعفنا بأبريق من الشاي الخمير يلعب عليه الخيال وجلسنا خارج الدكان لنمارس ما أسماه (طق الحنك)! قال لي: الناس تعودوا على الكهرباء وما عاد أحد يرفع يده عن رجله إلا على الكهرباء، عندنا في البيت من دون يمين أكثر من عشرين قطعة تعمل على الكهرباء، زوجتي أم عمر تغسل وتجلي وتسخن الطعام وتفرم وترق وتعصر وتخلط وتقور وتصنع دعابيل الكبة..على الكهرباء. من زمان، يوم كان أبي الله يرحمه حياً، لم تكن الكهرباء معروفة إلا في المدن الكبرى، وكانت النجارة عندنا كلها بالآلات اليدوية، وكان النجار يحمل عدته وأخشابه ويذهب إلى المنزل الذي يريد أن ينجره ويعسكر فيه شهراً أو شهرين حتى ينتهي وبما أن القرى ليس فيها مطاعم فقد كان صاحب البيت ملزماً بتأمين الطعام للنجار وعماله طيلة فترة المعسكر. الحقيقة أنني أصغي لحكايات أبي عمر باهتمام لمعرفتي أن الطرافة تلازم حديثه فهو يمتع المستمع إليه بالتفاصيل الصغيرة التي يلاحقها، ويزيد في متعته حينما يصل إلى القفلة، فهو معلم حقيقي في صناعة القفلات المدهشة لأحاديثه. قال لي: أنا كنت صغيراً ورافقت أبي في سفرة إلى قرية الفقوسة حيث تعاقد مع آغا القرية أن ينجر له منزلاً ليسكنه مع زوجته الثالثة، وكان المرحوم أبي من النوع الكساب الوهاب الذي يشتغل ويأكل أولاً بأول دون أن يتعب نفسه في التوفير والتخطيط للمستقبل، وقد قال للآغا صراحة في لحظة اتفاقهما على الأسعار: يا آغا، أنا لا أحب شيئاً في الحياة بقدر ما أحب الطعام، فخلال إقامتنا هنا أريد أن يكون الطعام الذي ستقدمونه إلينا دسماً ومتنوعاً وكميته وافرة. وهدده إذا حصل تقصير في هذا الموضوع أنه سيترك الشغل دون إكمال ويمشي. وكان الآغا على ما يبدو بخيلاً، ومع ذلك أرغم على الاستجابة لمطاليب أبي، وأذكر أن زوجة الآغا وضعت لنا على العشاء في اليوم الأول نحو عشرة أطباق متنوعة، فأكلنا بشراهة، ونمنا. والشيء نفسه حصل في صباح اليوم التالي وعند الظهيرة. أنا من جهتي لم ألاحظ ولكن أبي لاحظ أن عدد الأطباق التي تضعها زوجة الآغا أمامنا بدأ يتناقص يوماً بعد يوم حتى وصل في إحدى الوجبات إلى ثلاثة أطباق فيها طعام لا يسمن ولا يغني من جوع. المهم، وخجلاً من أبي، توقفنا أنا والعمال عن تناول الطعام متظاهرين بالشبع، وأما أبي فقد مسح الصحون عن بكرة أبيها من محتوياتها، ولما فرغ من ذلك قال لي: قم يامحمد وأحضر لي المقداح وقليلاً من البراغي والعزقات والرنديلات. استغربت هذا الطلب، ولكنني لم أعترض. أحضرت له المطلوب. ثبت الطبق الأول على الطاولة الخشبية المخصصة لتناول الطعام، وقدح الصحن مع الطاولة، وأنزل البرغي في الثقب، ووضع العزقة والرنديلة من الأسفل، وشدها بإحكام. كرر العملية مع الطبقين الآخرين. بعد قليل حضرت زوجة الآغا لكي تحمل الأطباق الفارغة، ولكنها فوجئت بأن الأطباق مثبتة إلى الطاولة بإحكام. قالت: ماذا حصل؟ ضحك أبي وقال لها: سلامتك يا ست.أبلغي زوجك البخيل الشحاد أنني لن أسمح بإنقاص أي طبق من هذه الأطباق الثلاثة بعد اليوم! |
|