|
ثقافة أيا(غربتي العذراء) تلك التي سرعان ما أحالها بريق تحدٍّ جعله يقرر الترحال في تضادات أفكاره ليكتشف (فاجعة الرحيل) وبقسوة أعادته إلى صواب اليقين، مضمخاً بالشعر وكأنه (الريحان) يعبق بأحاسيس تشبه (صهيل القمح) وعنفوان الحرف الذي ينشد الخلود، عازفاً على (أراجيح الوتر) أروع وأصدق نبض يخفق في أضلع المعاني. كل هذا، جعل الشاعر مشحوناً بالجرأة، قادراً على إيقاف النزيف الموجع بنزيف لذيذ - كيف لا؟! وهو الذي (عندما ينزف الصخر) يلملم الآه خثرات فرح تشرق على قلمه كعشق مفاجئ، هامسة: (لا تدر ظهرك للشمس) يلتفت، فإذ بلهيب فجر الأماني يحرق أوجاع الحياة ويرد صلابة الشعر إليها ما يجعله يجهش بالدهشة مستفسراً: أحقاً (مات الشعر ... قام)؟! إنه حطَّاب الجنون، الشاعر الذي انتصر على أزمنة إسقاط امبراطورية الكلمة، فأعلاها وحق له بعدها أن يحلق مرفرفاً بالنور، يقين روح أطلقت مبتغاها.. (على الضوء أمشي).. المجموعة الشعرية الجديدة التي صدرت للشاعر (قصي ميهوب الذي ارتضى قبلها أن يكون حطاب الجنون) مدركاً أن لا توازن لدى الإنسان ولا روعة في مفرداته إلا تلك التي يلملم لأجلها من كل أصناف الحياة متذوقاً أشهاها. (نزيف الياسمين) القصيدة الأولى التي أراد بها التعبير عن عمق الوجع العربي المغروس في كياناتنا التي لا يتوقف نزف أملها وأمنها.. تماماً كالياسمين.. فهل أشد انتهاكاً للحياة من فقدان العبق فيها؟ عبق الأصالة والكرامة تنهمر فتتقاذفها رياح المواقف المتخاذلة والمتأرجحة والمنبطحة ما يدفعه للصراخ مستنكراً: أكلما شقَّ سيف ليلَ غربتنا به غدرنا وقلنا: من يناصره؟! أضحى الضمير لبيت العرب ميّتهُ ما نفع بيتٍ إذا ماتت ضمائره؟! ولأن الشاعر لا يريد أن يفقد الأمل، يذكِّر بأرض الحضارات التي لاعشق يفوق فوحها (دمشق) التي مازالت تحتضن العرب خشية الاحتضار الذي أرادت أن ترد فيه الروح. أصالةٌ دمعةُ الفيحاءِ متحفُها وكلُّ من زارها.. التاريخ زائره لكلِ عشقٍ له حبرٌ.. لها قلمٌ والعشق من دونها جفت محابره (تحولات الغانية هال) قصيدة أخرى حاول الشاعر فيها أن يصفع خيانات الهوى بصدق يؤكد على أنه وحده من علامات نبوءة الحب. وإلا فلتحل اللعنة على كل خائن لا يعرف الوفاء، لعنة الشعر والهوى. الصدقُ دوزنةُ الوفاء لعاشقٍ لا يستقيمُ الحب دون وفاء ولتَّتقِ الشعر، وإن لم تتقِ حلَّت عليها لعنةُ الشعراء.. وها هو الشاعر يعود في (أنثى الندى) فيرمم وجع القلوب التي يخونها الحب متلمساً أنثاه القوية التي هي خير وأحب إلى الشعر من المرأة الضعيفة، إنه استشعار قلب كلما ثارت عواصف تستهدف تدميره واقتلاعه من شرايين حبيب تشرَّش أكثر ليصبح اخضرار قصيدة تعربش باتجاه السماء مزهرة لوجه الحب وبدفء يمدها بإشعاعات الإخلاص يفوح من لهيبها عبق الأمل. ثوري فتاةَ الشمس عطرَ سحابةٍ مُدي لعاشقك السماءَ له يدا لولا شفاه النار تأسرُك هوى ما كان ماءُ الحُلمِ فيك تنهدا إنه المستحيل، الذي إذا غدا الآتي فيه حلماً فسيلجمه جنون الشاعر ذلك بأنه سيشهر سيف الضوء حوله بكل إشعاعات الجرأة ليضرب به ممزقاً الخطايا التي حولت الحياة إلى صهيل أزمنة يعرك حقائقها الفساد والاستعباد.. فساد الضعيف أمام لقمة العيش، واستعباد كرّسه زعماء باعوا تراب الوطن بحفنة ملذات وقبعات يقول في (المستحيل أنا). على الضوء أمشي وأسمع كيف يئنُّ من الجوع فوق الحصير بيت الفقير ألاحظ كل عيوب الزمان وكيف يفرُّ المكان وراء المكان وكيف تموت الدقائق قبل الثوان لا يكتفي الشاعر بفصل رأس الفساد عن ويلات الشعوب، بل يجرجره مهاناً، جباناً في أروقة قصيدته (قواد الحرب الكونية الثالثة) ذلك القواد الفاسد، الحاكم والمحكوم بانعدام الحكمة والدين، فقد صدأ لديه الضمير واهترأت الكرامة، فاستظل شيطان وساوسه بمعصيات توّجتها قيود شروره إنها قيود اللعنة والدمار الإنساني، والموت الذي يعشقها. فكِّر بكَ أنت ربعُ حرّ كيف تغدو اليوم نصف حر وغداً حراً إلا ربع حرٍ وبعد غد حراً كما الله فيك هل الله فيك حقاً؟! أم إن إبليس استظلَّ قبة نكرانك؟ ينتقل الشاعر الذي مزق ضجر أزمنة الصمت والتخاذل والموت روحه، إلى ضجر آخر إنه الرحيل المفاجئ للشاعر (محمود درويش) المناضل الذي قاوم حتى آخر قطرة من قلم أحاسيسه، ماجعل (ميهوب) يتوقف عن كل ما يشغل أوراقه ليزف إلينا قصيدة (أسرج حصان الفجر).. وبأبيات ابتدأت على لسان الراحل الذي لم يكمل قتاله، والذي صرخ معاتباً الموت الذي خطف روحه مثلما غيره من الشعراء الذين قاتلوا ببريق حد الكلمة.. يا أيها الموت المقامر لوصحت فيك النباهة ماكسرت حساميا ملت عروبة أمتي أصنامها حطم بفأسك - لوترى- أصناميا «حاصر حصارك» لا تفرَّ ولاتن واضرب عدوك بالشهادة أوبيَ إنه الغضب الذي رافقه ميتاً، فمن للبشرية بعد رحيل سيف الكلمة، يحق الحق ويعيد الحقوق إلى أصحابها؟! حسناً، فليكن الموت إن امتلك شيئاً من الحكمة والعدل فيما يصرع من أبطال ولأن الشاعر، يرى أن من يلج الخلود بفكرة لايموت، فقد سكب أحاسيسه وريثه أحاسيس الراحل، في روح خياله الذي كاد ينضب ورغم أنه كتب ومحا ثم كتب ومحا، فقد أطلق نداءه يستحث الراحل أن يسرج حصان الفجر لينطلق مبحراً فويق النور، نور القصيدة. نعم.. يحق للشاعر (درويش) هذا.. لطالما جاب (قصي) مجاهل الأرض يسأل عنه. الحب ... الخبز.. العصافير.. الحقل.. الزيتون.. الأقصى .. الريح .. القضية.. النضال.. فلسطين.. رآه موجوداً. حياً. ما اضطره إلى عدم تقديم العزاء به، بل له.. وسألتُ عنك الأرضَ فاستندتْ إلى حجرٍ على حجرٍ.. مشى زيتونيا ورسمت وجدان القضية مثلما رسمت خيوط الشمس وجه صباحيا صرخت فلسطين الجريحة من ليَ أضحت سماء القدس فيك ثمانيا لا لن أعزِّي في رحيلك أمتي إن العزاء بها إليك تعازيا وهكذا، حلقت الكلمة بأجنحة الخلود لا يتسع لجلال معناها مدى... الكلمة التي أطلقها شاعر (على الضوء أمشي) شفافة - حالمة - حانية - ثائرة - قاتلة - عاشقة. إنها ثورة الحرف يعيد تشكيل الحياة لاكما يشتهي الجهلة وإنما كما تشتهي روح القصيدة التي تنبض بالحياة.. |
|