|
ثقافة
هي كتب تحرك المياه الراكدة في عروقنا، وتؤجج وعينا وإدراكنا للأشياء من حولنا، وتعيد اكتشاف ما كان خافياً عنا. هي كتب لا تقتصر على الحكايات فقط، بل تتعداها إلى الجدل الفلسفي والقص التاريخي لحوادث الزمان. «خريف البطريق»، «مائة عام من العزلة»، «الحب في زمن الكوليرا»، ثلاث روايات لعرّاب الرواية السحرية غابرييل غارسيا ماركيز. إنها نموذج لكتاب الجلسة الواحدة، حيث لا يمكنك إلا متابعة حكاية أبطالها الغرائبيين في عالم ساحر. لا يمنحك ماركيز وقتاً لترتاح؛ إذ إنه يراكم الأحداث بصورة عجيبة، وبشكل متلاحق، وأنت تسمع لهاث الجنرال هنا، وهواجس أمه هناك، وأغاني الحب في أماكن متعددة. وتخاف إن أغمضت عينيك لوهلة، أن تهرب قارة أمريكا اللاتينية بأكملها من بين السطور، وتفقد أجمل عالم لحكايات الحب والقهر والموت. أما الرواية الأثيرة لديّ، والتي أعتبرها نموذجاً فريداً في عالم القص والأسلوب الروائي، فهي «بيدرو بارامو» لخوان رولفو. ولا أدري كم مرة قرأت هذا الكتاب، وفي كل مرة أنهيه في جلسة واحدة. هي رواية خرجت من كونها حكاية لاتينية، لتغدو ملحمة عالمية بامتياز. وعلى عكس روايات ماركيز الثلاث سابقة الذكر، فإن «بيدرو بارامو» رواية صغيرة ورشيقة وصاعقة، رغم أنها تصنف - ومن دون مبالغة - من الشعر الجميل من أولها إلى آخرها. إنها عالم قاسٍ، كتبه فنان مرهف، فبدا لوحة بديعة، لا يمكن أن يرسمها سوى خوان رولفو، وخوان رولفو فقط. وإذا كانت الرواية اللاتينية السحرية مدينة لرولفو، فإن الرواية العالمية أيضاً - وعلى المستوى نفسه - مدينة لرولفو في أسلوب القص ومتعة الحكي وجمال الشعر. أستطيع أن أذكر قائمة لا بأس بها من الكتب تقرأ في جلسة واحدة، بينها: «آلام فرتر» لغوته، «البؤساء» و»أحدب نوتردام» لهوغو، «دفاتر دون ريغو بيرتو» و»امتداح الخالة» لماريو بارغاس يوسا، مؤلفات نيتشه كاملة، مؤلفات شكسبير كاملة.. وهناك الكثير الكثير غيرها. فمن الطرف الآخر من العالم، أي من آسيا، وبالتحديد من أفغانستان، خرج روائي يدعى خالد الحسيني، وأعلن أنه يمتلك أدوات لتسطير ملحمة عالمية فائقة الجمال، فيها الملائكة والشياطين. كتب الحسيني روايته الأولى «عدّاء الطائرة الورقية»، مفتتحاً بها مشروعه العملاق، وأظهر للعالم أن أفغانستان ليست حرباً فقط، وليست طالبان وأخواتها، وإنما هي عالم مليء بالحب والوفاء، يستطيع أبناؤه - إن أرادوا وتكافلوا - أن يحرزوا تقدماً إنسانياً مهماً. ترجمت «عداء الطائرة الورقية» إلى 38 لغة، وحولت إلى فيلم هوليوودي. هي رواية عن الحب والصداقة الحقيقية، وما تفعله الحرب بأرواح ومصائر الناس. فيما بعد تلقيت رواية خالد الحسيني الثانية، وكانت بعنوان «ألف شمس ساطعة»، فأنارت بشموسها ألف دهليز، خُبئت فيه حكايات أفغانية ساحرة. إنها رواية صادمة، بلغة متفوقة. وهي خليط من عالم الجن والإنس والشهوة، في بلد ميزته الأولى أنه مأساوي بامتياز. حين كان خالد الحسيني يتحدث بلسان فتاة، يستعير روحها ومشاعرها وكلماتها العذبة، يستعير هذه الأشياء ويمنحنا إياها عن طيب خاطر مع إحناءة رأس أملاً منه بأن نقبلها: «آمل أن أشرككم، أن أنقلكم، وأن تستطيع الرواية أن تحرك مشاعركم وتترككم بقدر من التعاطف والتراحم تجاه النساء الأفغانيات اللاتي يعانين معاناة لا نظير لها». وحقيقة فعلت الرواية أكثر من إشراكنا وتعاطفنا؛ لقد وضعتنا في كابول نعاني كما تعاني تلك النساء. من عالم الرواية يمكنني أن أذهب إلى كتب التاريخ ومنها إلى كتب نيتشه، الذي أفضله شخصياً في كثير من قراءاتي الفلسفية. ولا أذكر أني بدأت بعمل من أعماله، ولم أنهه في يوم واحد، لسبب وحيد، أنني كنت أشعر بأني بحاجة إلى تلك الأفكار، التي غيرت تاريخ العالم، وعليّ أن أستمد منها أفكاراً تساعدني على فهم العالم المتوحش، البائس، المغترب عن نفسه. إن نيتشه ليس فيلسوفاً اعتيادياً، وليس شاعراً مألوفاً، إنه خليط من عبقرية وجنون معاً. إنه حالة خاصة في تاريخ الفلسفة. صغيراً قرأت «هكذا تكلم زرادشت»، وصغيراً تورطت في ألم العالم ومغزى الوجود. اندفعت لقراءة نيتشه بحزن (وهذا حقيقي)، وقرأت في ثلاث ساعات «العلم المرح»، ثم في عدة ساعات «شفق الأوثان». وتأكدت بأن عقله حرّ بدرجة منقطعة النظير، وفعلاً فإن «كل العقول الحرة تحدث ضجيجاً فظيعاً» كما يقول هو نفسه. لا تتوقف قائمة كتب الجلسة الواحدة عند ما ذكرته سابقاً، لأن هذا سيكون ظلماً لعدد كبير من الكتب المتحفية والخالدة. |
|