|
ثقافة وأما فيلم «المدرس» فهو من إخراج عمر أميرلاي ، محمد ملص وأسامة محمد الذين بادروا إلى تصوير هذه المادة السينمائية داخل مرسم الفنان قبيل وفاته بسنوات قليلة وهذا الشريط المصور يعرض لحظات مختلفة من الحوار الذي دار بينهم وبين هذا الفنان الكبير الذي يعتبر أحد أعمدة الفن التشكيلي المعاصر في العالم العربي والغربي وهو بالطبع واحد من أبرز الفنانين الذين أسسوا لهوية تشكيلية محلية. بدأت مشاهد الفيلم الوثائقي هذا والفنان يتوسط عدداً من اللوحات حيث يقوم بعمله ويتحدث بكلمات غير مفهومة إلى حد ما فالمتابع يجد نوعاً ما صعوبة في التقاط معاني ما يتفوه به الفنان، وكأني به يترك لفرشاته فرصة التعبير فيتوزع تركيزه بين محاوره وباليت الألوان وفرشاته وسطح اللوحة والكاميرا متحدثاً في هذه الأثناء رامياً نظراته متنوعة الانطباعات فينفعل لحظة ويبتسم لحظة أو يطيل النظر بمجموعة من الألوان لا تبدو في كادر الكاميرا ، واللافت بشكل طريف أنه في لحظات يقوم بالانتقال بين لوحة وأخرى بشكل خاطف ملوناً مساحات فيها بشكل يعجز وصفه ووصف ذلك الأداء الرائع الذي يترك أثره بوضوح محدداً أجزاء واسعة من تلك التي مرت عليها فرشاته. جالت كاميرا المخرجين في أرجاء المرسم أكثر من مرة وكانت تقف عند بعض الموجودات وأشياء الفنان الخاصة وتظهر بعض العبارات التي كان يتركها هنا وهناك منها ما علق على الجدران ومنها ما هو متروك على الطاولات إلى جانب الأشياء المبعثرة واللوحات الكثيرة المتراكمة والمعلقة على الجدران أو المنصوبة على بعض الحوامل الخشبية. كان يتحدث الفنان المدرس بجرأة وحرية وحنكة وصدق وصراحة معبراً عن أفكار عميقة وعن تجارب حياتية غنية وخبرات طويلة وبدا عليه الحزن والكرب في بعض اللحظات وبخاصة عند حديثه عن أبنائه ومأساته في فقدهم وبدا طليقاً ومتوقد الذهن وثاقب النظر وهو يتحدث عن اللون أو يطلق بعض الأحكام الجمالية والفنية . ينظر للألوان بعين مغايرة فمن علاقته الطويلة بها خبرها بشكل لا محدود و تعامل معها بكيانها وقدراتها ولكل منها مفهومه المحدد، يتحاور مع هذه الألوان ويخاطبها ويرى منها ما هو نزق أو جامح أو مداهم أو حتى حقير وهدام في بعض الظروف والأماكن. استعاد المدرس في الحوار أطيافاً من طفولته المؤلمة والطريفة وارتباطه بوالدته، وماضي علاقته بالكائنات والأماكن والأشياء عبر سبر وجداني لذاكرته. ولا تقتصر أهمية السيرة الذاتية والفنية تلك عن نظرته الفلسفية المتفردة حول علاقة الفن بالحياة وعلاقته بالوجود. أما الفيلم الآخر «جبر علوان» فهو من إخراج قيس الزبيدي ويروي البعض من حياة الفنان العراقي جبر علوان وهي بدورها حياة طريفة يحياها بعيداً عن وطنه المتاخم لبابل، حيث يقيم في روما /إيطاليا/ وينتقل بين هذا البلد الأوروبي ودمشق التي يرى فيها ملامح وطنه الرافدي فتتفجر وجدانياته في مقاهي وحانات وحارات دمشق القديمة. وفي هذا الفيلم خرجت الكاميرا من مرسم الفنان لتتابع رحلته اليومية بين الناس وتلتقط لحظاته التي يعيشها في التأمل واستحضار الذكريات الضبابية والتفكير بجوانب متعددة ترتبط بحياته. تنتقل كاميرا المخرج قيس الزبيدي بين شوارع روما ومقاهيها ومطاعمها وبين المرسم الواسع الذي تزدان جدرانه بلوحات الفنان ذات الأبعاد الكبيرة ، هذا المرسم الذي يستقبل ساعات طويلة من العمل ولحظات أخرى من المرح والسمر مع الأصدقاء. لقد استغرق المخرج في عمله بحثاً عن مشاهد معينة وخصوصية في الانتقال بين مشهد وآخر مستفيداً من ولع الفنان علوان بالسيجار الذي يكاد لا يفارقه، وبالطبع كانت النتائج التقنية جديرة بالتقدير، فالسياق العام للفيلم يسلط الضوء بشكل لافت على النواحي الفنية والحياتية وما يغلفها في حياة الفنان. ومن الجدير ذكره أن الفنان علوان رافق التطور الحاصل في أوروبا والعالم منذ ما يقارب ثلاثة عقود وفي ذاكرته التراث الشرقي وهذا ما جعل منه شخصية مركبة من ثقافتين غربية وشرقية قديمة معاصرة. وإن ألوان جبر علوان مثيرة بصرياً حيث يترك لخياله الحرية المطلقة فيجول هذا الخيال على سجيته أمام المساحة الكبيرة تاركاً قيماً لونية غريبة تعبر بذاتها عن مفاهيم وقيم متعددة وغنية. |
|