تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ميلاد رسول الله..قراءة في المشروع السياسي للرسول الأكرم

دين ودنيا
الجمعة 6-3-2009
محمد حبش

لم يتحدث السلف من الصحابة ولا التابعين عن المولد النبوي ولا يمكنك أن تجد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية شيئاً عن المولد النبوي، ولو كان المطلوب أن نكتفي بما ورد في الكتاب والسنة لكان إحياء المولد النبوي بالفعل بدعة خاطئة غير مقبولة، ولكن العقل الإسلامي منذ بداية الرشد هدي إلى ابتكار مواسم هادفة ضرورية اتخذها منابر ليعيد للأجيال الآتية سيرة السابقين ويجدد كفاحهم.

وبعيداً عن خطاب المساجد في مديح رسول الله، والحديث عن شمائله ومناقبه وخصائصه فإن هذا المقال ماض للحديث عن الرسول الاكرم في رسالته الخالدة قائداً تحررياً قاد بنفسه أول كفاح من أجل وحدة العرب واستقلال سوريا.‏

في غاره كان يتأمل في حرية أمته ومستقبلها، كيف يسوغ أن نقبل باحتلال رومي لأرض مصر والشام العربية، واحتلال فارسي لأرض الرافدين، لقد تحدث إلى الناس في بصرى وإربد وعمان والبتراء باللسان العربي، كل شيء في بلاد الشام عربي اللسان والعادات والقبائل والشعر والمشاعر والتاريخ والآباء والحنين والنوق والخيل كل شيء هناك عربي بلهجة آرامية، إلا حكامها فقد كانوا روماً بيزنطيين!!‏

الشام أرض زنوبيا (زينب بنت عمرو بن الظرب) وأرض الغساسنة والكلدانيين والإيبلائيين والفينيقيين من العرب كانت محكومة من قبل نسطاس بن نسطورس وهو محتل رومي لا يمت بشيء من الصلة لأرض الشام الشريف.‏

لا شك أنه سمع بكفاح زنوبيا أول كفاح عربي في مواجهة روما، لقد بنت حضارتها في قلب الصحراء وخلقت المعجزة الشاهدة على الدهر، وأعلنت وحدة سوريا مستقلة حرة، ثم وصلت جيوشها إلى مصر تعلن أول دولة عربية تضم سوريا ومصر، ولكن الجيوش الرومانية لم تبطئ في اقتحام الصحراء ووصل الامبراطور يوليان نفسه إلى تدمر ولم يهدأ لروما بال حتى قضت على طموح سيدةالصحراء وأعلنت نهاية الحلم العربي في الاستقلال والحرية!‏

ومع أن الرسول الكريم كان رجل هداية وعبادة ولكنه لم يكتم مشروعه السياسي في التحرر من ربقة الاستعمار الرومي والفارسي وقال بوضوح: إذا مات كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده!!‏

مذ كان يافعاً كانت تطوف بخاطره آمال كبار لقد وصل إلى بصرى الشام في غمار قوافل التجارة وكان يتأمل في ذلك كله ويقول كيف يمكن لأمة ترتبط اقتصادياً من اليمن إلى الشام بإيلاف واحد أن تكون في قبضة مستعمر غاز لا يرحم؟ ولماذا يجب على أهل الشام طاعة القيصر في بيزنطة؟ ولماذا يرغم نهر بردى أن يعبر القنوات الرومانية ليسقي المزارع التي تجبى ثمراتها إلى القسطنطينية؟ ولماذا يجب أن يكون نهر النيل العظيم شرياناً للرومان الذين ما زالوا يأكلون خيرات مصر منذ اقترن أنطونيو بكليوباترة، ومنذ بدأ المصريون نتيجة خرافة غادرة بإلقاء خيرة صباياهم في النيل كل عام من اجل استرضاء الرب الذي لا يفجر ماء النيل إلا إذا خطف واحدة من صبايا مصر الحسناوات!! وهو أرق استمر حتى بعد الفتح الإسلامي وحين كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بشأن ذلك يستأذنه في تنفيذ رغبة أهل مصر وإلقاء فتاة في النيل استرضاء للرب واستجداء لماء النيل كتب له عمر غاضباً ويلك: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)!‏

المشروع السياسي للرسول الكريم كان من وجهة نظري واضحاً تماما، تحرير بلاده ومن ثم بناء علاقات صحيحة ومسؤولة مع أمم الجوار من فرس وكرد وروم وحبش وهند، لقد بدا أولاً بتوحيد جزيرة العرب، ثم أطلق رجاله إلى بلاد العرب التاريخية التي تمتد تقليديا من الكويت إلى موريتانيا، هي أراض لم يحصل أن زارها النبي الكريم من قبل، ولم تكن لديه بالطبع خرائط لجغرافيا أرض العرب ولكنه كان يدرك تماماً أن هناك كفاحاً قدمه الآباء السوريون من فينيقيين وكلدان وبابليين على شواطئ المتوسط من أنطاكية إلى الاسكندرية إلى قرطاج كان يحمل إلى تلك الشواطئ المترامية الأطراف شوق الصحراء العارم، وحديثاً دافئاً عن بيت المقدس وعن الكعبة بيوت الله الطاهرة التي بناها إبراهيم جد العرب.‏

رجاله الذين ساروا فيما بعد على الشاطئ الشمالي لأفريقيا من عمرو بن العاص إلى عقبة بن نافع لم يكونوا في سبيل خلق ديموغرافيا جديدة، بل كانوا في سبيل إحياء ما تصرم من عناء الآباء المنزرعين منذ فجر التاريخ في تلك الشواطئ، والذين بنوا الشواطئ الأفريقية وانقطعت وشائجهم مع أرض العرب وتبربرت ألسنتهم وتأمزغت وقد انقطع بهم وبأبنائهم السبيل للوصال مع أرض الأنبياء.‏

كان رجاله يعرفون تماماً أين ينبغي أن تمضي رسالة الحرية، فوق أرضهم العربية التي عانت طويلاً من الاحتلال والقهر، وفي إشارة واضحة للبوابة الشرقية قال عمر: وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم!! وفي الجانب الأعلى من وطنه العربي كان يقول اتركوا الترك ما تركوكم فإنه لا يسلب أمتي ملكها وما خولها الله إلا بنو قنطوراء! ومن جهة الجنوب فقد أرسل علياً ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري ولم يكن ليقبل اليمن السعيد إلا بكامل ترابه من باب المندب إلى بحر العرب، أما المنذر بن ساوى فقد رسم لدولة الإسلام كامل الشاطئ الشرقي من أرض العرب من عمان إلى الكويت.‏

أرجو أن لا أبدو هنا سمجاً أستخدم خطاباً خشبياً يربط منطق النبوات بعصر القوميات، ولكنه في الواقع صورة متقدمة من الكفاح إياه الذي يكابده اليوم أهلنا في العراق وأهلنا في فلسطين للخلاص من الاحتلال البغيض وبناء دولة الحرية بعد رحيل الاستبداد.‏

لا أستطيع أن أزعم بالطبع أن النبي الكريم رسم خريطة العرب من الكويت إلى موريتانيا ومن أنطاكية إلى أكسوم إلى القرن الأفريقي، وأدخل فيها الطنب الكبرى والطنب الصغرى وأبو موسى وكيليكيا وعربستان ولواء اسكندرون، وكتب تحتها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة!! ولكن قراءة دقيقة لتاريخ الفتوح يجعلك تشعر بالدهشة حيث ترسمت خطى الفاتحين نفس الخطى التي سلكها من قبل في الشمال السوريون الفينيقيون الأوائل، وفي الجنوب العرب العدنانية والقحطانية، وأنجزوا خلال الخلافة الراشدة تحديداً خلاص البلاد العربية من الاستعمار الرومي والروماني والفارسي وبدء فجر جديد للأمة العربية.‏

قد يكون في شهادتي نوع من التجريح بسبب انتمائي إليه، ولكنني سأختار شاهدي على رواية هذه الحقائق من كلام واحد من أوفى أبناء السيد المسيح الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي كتب في ضمير التاريخ:‏

عيد البرية عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين دوي‏

يا فاتح الأرض ميداناً لدولته صارت بلادك ميداناً لكل قوي‏

يا قوم هذا مسيحي يذكركم لن يوقظ الشرق إلا حبنا الأخوي‏

فإن أتيتم رسول الله تكرمة فبلغوه سلام الشاعر القروي‏

هل نسيء إلى رسالته إذا قلنا إنه كان يحمل هماً قومياً وطنياً من اجل بناء بلده؟ بعض الأصدقاء يظنون أن أي كلام عن رسالة النبي الوطنية أو القومية أو عبقريته وموهبته تقتضي ضرورة أنه كان خارج سياق النبوة، وكأن النبوة لا تنزل على العباقرة والموهوبين، وكأن رسالته في نشر الإيمان تتعارض مع دوره في خدمة المجتمع وبناء الحياة.‏

المشروع السياسي للنبي الأكرم باختصار تحرير أرض العرب سلماً أو حرباً، ثم بناء علاقات صحيحة مع الأمم، وتوجيه رسالة الهدى والرحمة للعالمين.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية