تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فشل « دبلوماسية القوة » الأردوغانية

شؤون سياسية
الثلاثاء 26-3-2013
بقلم : عثمان العثمان 

شكلت خطوة حلف الناتو بنشر صواريخ باتريوت الأميركية على الأراضي التركية الجنوبية المحاذية للشمال السوري في شهر كانون الثاني / يناير الماضي (2013)

استجابة لقيادة الجبهة الثلاثية التي تقود الحرب الإرهابية في الداخل السوري ، ( الإسرائيلية - القطرية - التركية ).‏

هي الخطوة التي تزامنت مع فشل العصابات المسلحة متعددة الجنسيات بتحقيق أي نصر عسكري ضد الجيش العربي السوري، ما أدى إلى عجزها عن تحقيق هدفها الإسرائيلي المعلن بإسقاط الدولة السورية ونظامها . وقد كان واضحاً ، أن نشر هذه الصواريخ جاء استجابة لطلب الحكومة التركية، والأخير بدوره عكس مطلباً إسرائيلياً قطرياً استهدف رفع معنويات العصابات المسلحة، وبشكل موازٍ إضعاف الدعم الشعبي السوري لنظامه ووحدة دولته وجيشه.‏

نشر صواريخ باتريوت هذه، كما صرحت مصادر أوروبية جاء ضمن ما يعرف بمصطلح « دبلوماسية القوة » التي تستهدف من حيث المبدأ، ممارسة الضغط السياسي بالتلويح العسكري على حكومة الدولة المعنية بهدف دفعها لتقديم تنازلات سياسية محددة لخصومها. إلا أن هذه الدبلوماسية التي وجدت تطبيقاتها على امتداد التاريخ، وخصوصاً في القرن العشرين الماضي، تخضع لشروط ومقومات أساسية وموضوعية لأدائها . فيكون النجاح حليف الطرف الدولي الذي يمتلك هذه الشروط، والكفاءة في تطبيقها. والعكس صحيح، حيث يكون الفشل حليف الطرف الذي لا يمتلك مقومات استخدام هذه الدبلوماسية « العسكرية «.‏

كان واضحاً ، أن الهدف من نشر صواريخ باتريوت على الحدود التركية الجنوبية ضمن دبلوماسية القوة الأطلسية، ممارسة الضغط العسكري والسياسي خارجيا وداخليا على الدولة السورية، وبكافة مكوناتها وقواها السياسية بهدف إسقاطها. إلا أن هذه الخطوة التصعيدية لم تحقق هدفها. لماذا ؟ .‏

الهدف من اللجوء إلى استخدام « دبلوماسية القوة « هو سياسي بالدرجة الأولى، بتزامن مع تصعيد لأزمة إقليمية أودولية. بحيث يكون الهدف منها، توجيه رسالة واضحة إلى الطرف اللاعب في تفجير الأزمة، بإقناعه باستحالة تحقيق أهدافه الحقيقية من الأزمة. ما من شأنه دفعه إلى القبول بمطالب الطرف الذي يمارس هذه الدبلوماسية من خلال إقناعه باستحالة تحقيق أهدافه السياسية .‏

مثل هذا الهدف، يتطلب بداهة، أن يمتلك الطرف الذي يمارس هذه الدبلوماسية عدة شروط أساسية، في مقدمتها :‏

1) أن تمتلك الدولة التي تمارس حكومتها هذه الدبلوماسية قوة عسكرية مميزة، قادرة عمليا على الدخول في مواجهة عسكرية حاسمة عند الضرورة في حال نشوب الحرب .‏

2) الشرط الثاني لممارسة « دبلوماسية القوة « هو الكفاءة الإستراتيجية القتالية العسكرية لدى القيادات العسكرية للدولة التي تمارسها .‏

3) الشرط الثالث، هو الكفاءة الإستراتيجية العالية في إدارة الأزمات لدى الطرف الذي يمارسها لضمان نجاحها أولا، ولتجنب خطر تحولها إلى تصعيد للأزمة يقودها إلى حالة الحرب .‏

هذا ما بدا واضحا في الأزمة المصرية - الإسرائيلية في حزيران / يونيو 1967 ، حين قررت الحكومة المصرية يوم 16 حزيران 1967 طرد القوات الدولية من الحدود المصرية مع «إسرائيل»،على خلفية التهديدات الإسرائيلية بغزو سورية في حينه. حيث وظفت «إسرائيل» الخطوة المصرية في خدمة الترويج لمزاعمها، بأنها ضحية حرب وشيكة مصرية عليها، ما يبرر قيامها ( إسرائيل ) بحرب وقائية. وهو ما تحقق ميدانيا بعد عشرين يوما من ذلك التاريخ .‏

4) الشرط الرابع ، هو أن تكون الإجراءات التي تصاحب دبلوماسية القوة محسوبة بدقة، وفق خطة إستراتيجية محكمة، بطيئة في تفاعلاتها رغم أنها تحمل في طياتها الرسالة بإمكانية إنزال الضربات العسكرية الحاسمة ضد الخصم، في حال تمسكه بتصعيد الأزمة .‏

هذا ما تحقق بنجاح باهر في الإجراءات التي مارستها إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 . فلقد تمحورت الإجراءات العسكرية الأميركية ضمن نطاق الحصار البحري الوقائي ( غير الصدامي الاستفزازي التصعيدي ). فلم يأمر الرئيس كينيدي بوضع الصواريخ العابرة للقارات بدرجة الاستعداد القصوى مثلا . ولم يتخذ إجراءات خطرة تستهدف حصار الاتحاد السوفييتي السابق .‏

بينما في الأزمة المصرية - الإسرائيلية ، أيار 1967 ، لجأت القيادة المصرية إلى إغلاق مضيق تيران وخليج العقبة يوم 22 أيار في وجه الملاحة البحرية التجارية الإسرائيلية . وكان معنى تلك الخطوة من وجهة نظر الكيان الإسرائيلي ، في حال نجاحها ، حرمان إسرائيل من تصريف منتجاتها وصادراتها إلى أسواق إفريقيا. فوظفت «إسرائيل» الخطوة المصرية لتبرير حربها التي كانت تستعد لشنها ضد مصر وسورية والأردن .‏

5) أن تستبعد الخطة الإستراتيجية لإدارة هذه الدبلوماسية أي إجراء من شأنه شعور الخصم بأن هذه الإجراءات ، إنما هي مقدمات لعمليات قتالية مؤكدة. إذ إن الخصم عندما يفهم دبلوماسية القوة بسبب غموض إجراءاتها، بأنها استعداد أكيد لمهاجمته، فإنه قد يضطر إلى حرب وقائية. وفي هذه الحالة تكون دبلوماسية القوة قد فشلت في تحقيق هدفها السياسي الأساس. حتى تتجنب دبلوماسية القوة هذا المنزلق الخطر، فلابد لمن يمارسها، من أن يفتح قنوات الاتصال المباشر مع الخصم في الأزمة لدعوته للتفاوض حول سبل محاصرة الأزمة. هذا ما دفع الرئيس الأمريكي جون كينيدي إلى إتباع هذه الخطوة حين اتصل كينيدي بالرئيس السوفييتي خروتشوف ودعاه للتفاوض لتسوية الأزمة .‏

القيادة السورية الحالية كانت في قمة الكفاءة السياسية، عندما عرضت في شهر تشرين الأول الماضي (2012) على الحكومة التركية تشكيل لجنة عسكرية مشتركة تحقق في موضوع القذائف الصاروخية التي قالت الحكومة التركية في حينه، أنها سقطت في قرى تركية جنوبية، متهمة الجانب السوري بالمسؤولية عنها. بينما أدت خطوات التصعيد من دول أوروبا التي اعقبت اغتيال ولي عهد النمسا الأمير فرانسيس فرديناند يوم 28/6/1914 ، دون فتح قنوات اتصال بين قياداتها، إلى أن فهم كل طرف أن الطرف الآخر يسعى إلى شن الحرب عليه. فتفجرت الحرب الكونية الأولى .‏

6) الشرط السادس الأخير، لنجاح دبلوماسية القوة، أن تتضمن إجراءاتها الخمسة السابقة، ما يمكن تسميته « حفظ ماء الوجه » للخصم للانسحاب من الأزمة، دون شعوره بالهزيمة من خلال ترغيبه بالانسحاب من الأزمة. طبق الرئيس كينيدي هذه الخطوة بنجاح باهر، حين أصدر أمره إلى السفن الحربية الأميركية بالتراجع عن محاصرتها لسفن الأسطول الروسي التي كانت تحمل صواريخ داخل المياه الإقليمية الكوبية، ما شجع الطرف السوفييتي على القبول بمفاوضات التسوية لإنهاء الأزمة .‏

من خلال استعراض الإجراءات المصاحبة لدبلوماسية القوة التي شكلت الموضوع الأساس لنشر صواريخ باتريوت استجابة لمطالب الحكومة التركية، والقطرية لممارسة الضغط على سورية بهدف إسقاط نظامها ، فإننا لا نلمس توافر شرط واحد من هذه الشروط والإجراءات الستة تعكس تطبيق الحكومة التركية لها .‏

ما حصل كان العكس تماما، حيث قابلت سورية الخطوة التركية - الأطلسية بالسخرية، دون الإذعان أو التنازل عن حقها في الحفاظ على سيادتها ومواصلة تصديها للإرهاب .‏

صواريخ باتريوت وهي محور دبلوماسية القوة للحكومة التركية ضد سورية، ليست قوة عسكرية إستراتيجية لتركيا. حيث هي إنتاج أميركي، تحت تصرف حلف الأطلسي مباشرة . وقرار استخدامها يخضع للقيادة الأطلسية - الأميركية وليس لحكومة أنقرة، ولا لحارس القاعدة الأمريكية في منطقة العيديد بإمارة قطر. القيادة السورية كانت تدرك هذه الحقيقة، بينما كان أردوغان وحارس قاعدة العيديد الأميركية القطري يجهلانها، أو يتجاهلانها، والله أعلم . ما يعني عدم توافر الشرطين الأول والثاني لهذه الدبلوماسية الخطيرة والمعقدة .‏

فيما يتعلق بالشرط الثالث الخاص بالكفاءة الإستراتيجية الواجب توافرها لإدارة الأزمة نفسها، فحدث ولا حرج عن افتقار حكومة أردوغان لها، حيث هي أدخلت نفسها في سلسلة لا نهاية لها من الأزمات على خلفية الدور التآمري الذي تمارسه ضد سورية، لحساب «إسرائيل» مقابل اجر مالي تتلقاه أنقرة من النظام القطري .‏

ما يتعلق بالشرط الرابع، فلم يكن له جود أساسا، حيث إن المؤسسة العسكرية التركية اتخذت موقفا معارضا للصدام العسكري مع سورية. هذا إضافة إلى الكفاءة العسكرية العالية الرادعة للجيش العربي السوري لإنزال الهزيمة العسكرية بأي عدوان خارجي .‏

من هنا، يمكن فهم الدافع لتصريح الأمين العام لحلف الأطلسي في الأول من شباط الجاري، الذي نفى فيه وجود أي دليل لدى الحلف عن وجود أسلحة كيماوية لدى سورية لاستخدامها في قتال المسلحين .‏

في المحصلة السياسية لما سبق، فقد انتهت دبلوماسية القوة التي مارستها حكومة أردوغان ضد سورية إلى الفشل الذريع، ولم تنجح في دعم العصابات المسلحة في تحقيق أي من أهدافها السياسية والعسكرية. لأن ما يجري على الساحة السورية، هو انعكاس لأزمة تركية - إسرائيلية يجري تصديرها إلى سورية بتمويل قطري لحساب «إسرائيل»، وليست أزمة داخلية سورية كما يروج الإعلام الإسرائيلي - القطري . هذا لا يتعارض مع حقيقة ظهور أزمة دولية واقعية في سورية ، تسببت في ظهورها التدخلات الإسرائيلية من خلال العصابات المسلحة متعددة الجنسيات، الممولة من النظام القطري ورعايته السياسية والإعلامية، وبالتسهيلات التركية .‏

 كاتب وباحث في القضايا الاستراتيجية وإدارة الأزمات‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية