|
ملحق ثقافي أو ما زالت في بداية الطريق، ولا يمكن لتجربة أن تحدد ملامحها مهما كانت مهمة من خلال عرض واحد، وعندما تعدّت التجربة إلى عدة عروض، وتوضحت بعض ملامحها العامة، عزمت الأمر وطرحت بداية سؤالاً نقدياً ليكون مفتاحاً للدخول إلى التجارب وإلى عوالم أصحابها الفنية والفكرية، ماذا أريد من التجربة،
وهل تستحق الكتابة عنها؟ بمعنى هل يمكن أن تكون هذه التجارب مادة نقدية، أو قراءة تحليلية؟ ثم طرحت السؤال على بساط البحث والمناقشة، لأتلمس بعض ملامح أو سمات كل تجربة إبداعية، بغض النظر إن انضوت التجارب تحت إطار واحد أو هي تجارب متفرقة، لأتمكن من التحاور مع كل تجربة على حدة. كانت أولى هذه التجارب التي أغرتني بالكتابة عنها، تجربة المخرجة الشابة رغدا الشعراني. بداية حاولت المخرجة مع مجموعة من المسرحيين الشباب تأسيس فرقة مسرحية خاصة، لكنها لأسباب مجهولة عني لم تر النور، وبدأت تجربتها الأولى في إطار مديرية المسارح والموسيقا مع عرض «شوكولا» من تأليفها وإخراجها، ومن ثم عرض «تيامو» إعدادها وإخراجها، وأخيراً مع عرض «لحظة». أين تقف هذه التجربة المسرحية؟ وما هي مقومات ديمومتها؟ بداية يمكن تصنيف التجربة في إطار تجارب الجيل الجديد/ الشاب، كما تصنف المخرجة تجربتها، لكن البعض وبتأثير من المسرح النسوي الأوروبي «بعض النقاد الأردنيين»، أدرجت تجربتها تحت مسمى المسرح النسوي، ولا أعتقد أن أحداً يعترض إن قلنا إنها تنتمي إلى تجارب مسرح الصورة أو المابعديات، ورغم ذلك فهي تنحاز إلى مسرح الشباب في طرح موضوعاتها التي تلامس جيلها، وإشغال حيز من الفضاء المكاني والزمني على الخشبة ليس لمجرد تعبئة الفراغ وإنما للتعبير عن الوجود الإبداعي لها، إن أية تجربة تحمل هذه الصفات الفكرية والفنية، هي بداية مثيرة للاهتمام وتستحق الكتابة عنها. لنعد إلى التصنيفات التي أطلقت على التجربة، تصنف كما قلنا مع تجربة مسرح الشباب، وهذا تصنيف عمري بغض النظر إن قلنا إنه لا يوجد في المسرح شباب ولا كهول ولا عجائز، إنما هناك مسرح يعمل فيه الشباب والشيوخ معاً، المحترفون والهواة، يهدف إلى التنوير وطرح القضايا الجوهرية للإنسان بأساليب عميقة. ثم إذا قلنا إنه مسرح نسوي، وضعنا التجربة في مواجهة المسرح الرجالي «مجازاً» أو تم تحييدها لأن هناك مسرح آخر غير نسوي، وهذا يقتضي أن تكون المواضيع المعالجة تمس المرأة والعاملين فيها هم نساء، لكن موضوعاتها ترد على هذه التهمة، إذ تمس قضايا الشباب في هذه المرحلة أكثر من تلامسهما لقضايا المرأة «جميع الممثلين في شوكولا كانوا شباباً متقاربي الأعمار» ، وهذا يعني الإحساس باللحظة التاريخية، وأخيراً إنها تجربة ما بعد الحداثة أو ما بعد الدرامية التي وصلت إلى البلدان العربية في سياق تطور تاريخي وفني لأشكال مسرحية/ أدائية، وهذه ليست تهمة طالما أن التغييرات طالت كافة مناحي الثقافة والحياة، ومن الطبيعي أن ينفتح المسرح عليها أيضاً. أخيراً، تبقى هذه التصنيفات في إطار حيز الأبحاث والدراسات، ولا أعتقد أن المخرجة تهتم بكل هذه التصنيفات إن كانت فعلاً تريد العمل في المسرح، ورغم ذلك لو سُئلت: أين تضع تجربتها من هذه المسميات، لقالت إنها تجربة مسرحية تهم جيلنا الآن، وترفد التجارب العالمية، لكن التصنيفات، هي لإثارة ذهن الباحث والقارئ، فهي لا تبالي أين تندرج تجربتها المسرحية بقدر ما تهتم أنها تقدم عرضاً مسرحياً تجذب شريحة كبيرة من الشباب/ المتفرج إليه وترضي غرورها وغرور مجموعتها المسرحية. هناك سمات عامة لكل تجربة يمكن الدخول عبرها إلى متن التجربة، فبعض التجارب تكون المواضيع مفتاحاً لها، وبعضها تكون الأزياء أو الديكور أو أسلوب المخرج أو الفضاء المسرحي، أو الحكاية التي لم تغب حتى الآن عن العروض المسرحية منذ أرسطو، لكن نحاول في هذه التجربة أن نبدأ بالعناوين التي شكلت علامات استفهام في ذهن المتفرجين. المتابع لعروض هذه التجربة سيجد من دون صعوبة أن عناوين العروض تتخطى حدود الجغرافية والإقليمية والقومية وحتى الخصوصية المحلية، وتتسم بالطابع المعولم بشكله الإيجابي، فهي تجربة إنسانية عناوينها معولمة، على سبيل المثال، عرض «شو كولا»، أصرّت المخرجة قبل العرض أن تكتب العنوان بالأحرف الأجنبية على بروشور العرض، شو وكولا، إنها كلمتان أجنبيتان اندمجتا في كلمة واحدة، وتحولت إلى العربية خارج سياقها الأصلي، فاتخذت دلالة ما، واللافت أن اختيار العنوان بمثابة الإعلان عن التجربة وجذب المتفرج إليها بأن ما يقدم مختلف عما يقدمه الآخرون، وأيضاً «تيامو»، كلمة إيطالية بمعنى الحب، فاستعانت المخرجة من اللغة الإيطالية هذه الكلمة التي قد تعطي دلالة الكلمة نفسها في العربية مع تغيير في العلاقات بين الشخصيات، وإذا تابعنا العرض، سنجد أنه عنوان يستقر في مواضيع الحب بكل أشكاله لدى أعمال شكسبير، وقد تكون إيطاليا جزءاً منها. في حين أن كلمة «Moment» لحظة، عنوان عرضها الثالث، فالمخرجة توحي بما يجري من الأحداث في اللحظة الراهنة، تحرض المتفرجين بأن الحدث قد يهمه في لحظة ما، ودعوة منها لاستغلال اللحظات التي يعيشها الإنسان والتواصل معها بصدق وحب أو أنها تريد التحكم بالقرار بطريقة ديمقراطية يشوبها نوع من الديكتاتورية المبطنة. ثلاثة عناوين إشكالية، تشكل الملامح الأولى لتجربة الشعراني المسرحية، وتدل على أن تجربتها تنحو باتجاه العولمية، وإن أظهرت معالم التمظهر المحلية وعدم تجاوزها أو أنها تريد هكذا أن يُفهم منها ورغم إشاراتها المحلية من الغناء والرقص وشبكة العلاقات والروح الشرقية، فلا تتخلى عما يجري في الواقع. رغم ذلك، نترك علاقة العنوان بالموضوع جانباً على أن نعود إليها مرة أخرى. إذا كانت تجربة شو كولا الأولى أسست بعض السمات العامة للتجربة، فقد أُسقطت بعض عناصرها في الثانية، وكرست بعضها الأخرى في محاولة للبحث عن الجديد، إلى أن تجذّرت في الثالثة بطريقة مغايرة، لأننا لا يمكننا العودة إلى تقنيات قديمة رغم جدتها وطزاجتها في تلك الفترة مع فارق التطور. في كل عمل جديد للمخرجة، تحاول أن تطرح موضوعاً جديداً يمس الجيل الراهن «الشباب» والعصر الذي تعيش فيه، بحيث ترتكن إلى شكل مسرحي متنوع، وليس إلى موضوع ذي لون واحد، بل تتجاوزه، لنتلمس شكلاً آخر أو إفساح مجال لنموذج في عرضها الأول، وإسقاط بعضها في التجارب التالية، فمثلاً في مجال التعريف بالممثلين والشخصيات وأدوارهم في التجربة الأولى، يظهر على شاشة منصوبة في نهاية خشبة المسرح أسماء الممثلين، وبجانب الاسم صفات كل واحد منهم ورغباتهم وأحلامهم غير المحققة، فمثلاً الممثل الفلاني، مدخن، لا يحب التدخين ومع ذلك يدخن، والممثل الثاني، ممثل، لا يحب التمثيل، ومع ذلك يمثل، وهكذا تقدم شخصياتها على شكل الدراما التلفزيونية أو السينمائية منذ اللحظة الأولى، لكنها شخصيات في حالة القهر والعنف الداخلي، فهي شخصيات مسلوبة الإرادة رغم الوعي الذي تتحلى به هذه الشخصيات، وهذه مقولة فكرية تدخلنا إلى جو مفعم بالرعب والخوف والعنف والقهر. وهذا يقودنا إلى الجرأة ليس في طرح الموضوع المسكوت عنه فحسب، إنما في طريقة التعامل معها أيضاً، فالشخصيات تريد حياة أخرى غير التي تعيش فيها، حياة أكثر حرية، لكنها عاجزة عن فعل أي شيء، فتضطر أن تمارس مهنتها التي لا تحبها تحت تجليات الخوف بكافة أشكاله. طريقة تقديم الشخصيات كانت سمة بارزة في العرض الأول، فتخلت عنها في العروض التالية، ولو استمرت بالطريقة نفسها لكانت العروض التالية نسخ مشوهة عن الأولى، ولكان الشكل يقترب من التكرار الذي لا يمكن للمسرحي المبدع أن يكرسه، وربما طبيعة المرحلة فرضت عليها هذا الشكل بأن هناك قوة خارجة تحرّك مصائر الشخصيات، وربما تدعو المخرجة إلى حالة الرفض والتمرد على السائد، لكنها في التجربة الثانية، أشارت إلى هذه القوة غير المرئية التي تحرك مصائر الشخصيات، وهي خارجة عن المفهوم القدري/ الغيبي، إنها قوة كامنة داخل كل شخصية «قوة الحب والتصالح مع الإنسانية عامة». استخدام الشاشة العملاقة كتقنية من التجربة الأولى استمرت في التجربة الثانية أيضاً، وعرضت عليها المشاهد التي لا يمكن عرضها على الخشبة، وهذا هو المستوى الثاني في مواجهة المستوى الأول/ الشاشة، فاستفادت من الشاشة لعرض والد هاملت القادم من العالم الآخر، وكذلك لعرض مسابقات فورمولا، وأخذت هذه التقنية حيزاً أكبر من التجربة الأولى، لكنها تخلت عن مسرحة الذات أو مسرحة حياة المتفرجين والممثلين وما يجري وراء الكواليس بالاعتماد على التصوير المباشر ونقل ما يحدث في الكواليس وغرف الممثلين على الشاشة للمتفرج، فاستخدامات الشاشة والتصوير بجانبيه الحي والأرشيفي من خلال آلة التصوير، أسقطت حالات وحركات الممثلين وتم إثباتها على الشاشة بمثابة صورة فيلمية. في حين أن الموسيقى كانت إلكترونية صاخبة في معظم أعمالها، والتي ترصد الراهن بصخبه وضجيجه وإبهاره، ثم إن الإبهار في الموسيقا أو الإضاءة أو الأزياء أو الديكور عنصر غير محبب في العروض المسرحية بعكس العروض الاستعراضية، فالإبهار يُعمي الأبصار دائماً وربما يعمي البصيرة أيضاً، لذلك فالتخلي عنه قد يكون لصالح العرض ودراميته، وهذه الدرامية قد لا نجدها في معظم عروض الشباب الذين يؤلفون ويخرجون، لأن الكتابة المسرحية ممارسة وحرفة قد لا يجيدها أفضل المخرجين، ربما نتحدث عن السمات الفكرية في مواضيعها فيما بعد. كل جيل يحمل أناه الجديدة التي لم يصل إليها أحد إلا هو، ذلك الجديد الذي بحث عنه السابقون في ذواتهم وفي الفن القديم، ربما يكون الوضع طبيعياً بالنسبة إليهم ما هو ليس خاصاً بهم، والذي يريده فقط. |
|