|
شؤون سياسية هذه المرحلة الحرجة والمفصلية في تاريخ جهاز الاستخبارات الأشهر في العالم هي ما كشفه- جون دايموند- في كتابه تحت عنوان: السي-آي-ايه وثقافة الفشل-الاستخبارات الأميركية من نهاية الحرب الباردة إلى غزو العراق . وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد عددت الأخطاء المعروفة في تاريخ الوكالة في مقال نشر في الآونة الأخيرة عن هذا الكتاب وعن الفترة العصيبة التي مرت بها الوكالة, إذ خفضت فيها موازنتها وخضعت لمراقبة شديدة من قبل الكونغرس, فضلاً عن الإخفاقات الاستخبارية التي لاحقت الوكالة في تلك الفترة. هذه الإخفاقات التي امتدت طيلة عقد من الزمن هي ما حاول المؤلف-دايموند-كشفه, مثل استهداف مصنع للأدوية في السودان بعد ما اعتقد أنه مخصص لإنتاج السلاح الكيماوي, إضافة إلى الخطأ الذي وتر العلاقات مع الصين عندما أطلقت أمريكا قنبلة موجهة بالأقمار الاصطناعية على السفارة الصينية في بلغراد مستعملة خارطة قديمة للعاصمة الصربية, ولا تقف الأخطاء عند هذا الحد, بل امتدت إلى ما هو أسوأ مثل فشل الوكالة في كشف-ألدريك اميس- الضابط في الوكالة الذي عمل مع الاستخبارات السوفييتية كي-جي-بي لتسع سنوات متواصلة دون أن يكشف أمره, وعندما ألقي القبض عليه كان-أميس-قد حصل على 2,5 مليون دولار مقابل تزويده الروس بوثائق مهمة تضم معلومات حول الأنشطة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية. فبعد تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1947 بهدف التجسس على الاتحاد السوفييتي أمضت الوكالة معظم وقتها تصارع عدواً لم تكن الولايات المتحدة قادرة على مواجهته وجهاً لوجه, لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 فقدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السي-آي-ايه أحد أقوى خصومها بل خسرت الولايات المتحدة ألد أعدائها الاستراتيجيين بعد صراع امتد عقوداً من الزمن. ومع اختفاء الخطر السوفييتي برزت تهديدات أخرى ليس أقلها الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل , إضافة إلى الصراعات الإثنية وهكذا استبدل الهدف الواضح الذي جسده المعسكر الشرقي بمجموعة من الأشباح وصفها -جيمس ولسي- مدير وكالة السي-آي-ايه بين 1993 و1995 بأنها غابة ملأى بالأفاعي . يستعرض المؤلف -دايموند- مرحلة هامة من تاريخ السي آي ايه تلت الحرب الباردة والصعوبات التي كان على الوكالة التعامل معها بعد انهيار الستار الحديدي وخروج الولايات المتحدة منتصرة في الصراع الإيديولوجي. وفي ظل الواقع العالمي الجديد أصبحت الاستخبارات الأمريكية مدعوة إلى إثبات جدواها لصناع القرار الأمريكيين وإقناعهم بأن دورها ما زال مهماً في عالم ما بعد الحرب الباردة. لكن المشكلة بالنسبة للكاتب هي أن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات لا تمحى بسهولة من الذاكرة الخاصة بالوكالة بل تبقى عالقة في ذهنها حتى بعد مرور وقت على ارتكابها محدثة آثاراً تتجاوز في مداها اللحظة الراهنة لتمتد تداعياتها إلى سنوات قادمة, فالمحللون داخل سي آي ايه كما يوضح المؤلف عادة ما يلجؤون إلى وضع تقارير تبالغ في التركيز على بعض القضايا تفادياً للأخطاء السابقة وتجنباً لأي إحراج في المستقبل, ولعل المثال الواضح الذي يورده الكاتب في هذا الإطار هو ما حصل في حرب الخليج الأولى عندما احتل صدام حسين الكويت إذ بالغت وقتها السي آي ايه في تقييم قدرة النظام العراقي واعتقدت أنه لن يخرج من الكويت لكن ما إن انخرطت القوات الأمريكية في المعارك حتى تمكنت من إخراج القوات العراقية خلال بضعة أسابيع وبأقل الخسائر, فكان أن تعرضت الوكالة لانتقادات شديدة ولا سيما من المشرعين الأميركيين الذين بنوا معارضتهم للحرب على أساس ما أطلعتهم عليه الوكالة, هذا الخطأ دفع السي آي ايه إلى محاولة التكفير عنه لاحقاً أثناء غزو العراق لتسقط في خطأ أكبر. فقد لعبت وكالة الاستخبارات المركزية دوراً أصبح معروفاً اليوم في التهيئة للحرب ضد العراق عام 2003 إذ وضعت التقارير بناء على معلومات استخباراتية خاطئة ادعت امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل mass destructive weapons ويلخص الكاتب هذه المرحلة الهامة من تاريخ السي-آي-ايه قائلاً: (بقدر ما كانت أحداث التسعينيات ناتجة عن تآكل قدرات الاستخبارات فهي كانت أيضاً نتيجة لها وهو ما ترتبت عليه سلسلة من الهفوات الحقيقية والهفوات المزعومة أدت إلى تراجع الثقة في الوكالة وإضعاف نفوذها, هذه الأخطاء غذت بعضها بعضاً وفاقمت المشكلات لتبرز في الأخير ثقافة من الفشل أقحمت الوكالة في دوامة من الأخطاء والانتقادات والتصحيح المبالغ فيه والتسييس وصولاً إلى ضعف المعلومات المتاحة لصناع القرار الذين بدورهم فاقموا الوضع بإصدارهم لقرارات مجحفة وظالمة) . |
|