تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بعد أكثر من ثلاثين عاماً على ر حيله: كاتب وموقف تحتفي بشاعر النيربين

ثقافة
الأحد 30/11/ 2008 م
فادية مصارع

نفي وهاجر مكرهاً عن الوطن, وحكم عليه بالإعدام مرتان, لكنه ظل المناضل والثائر حتى في المنفى وبقيت الروح معلقة بدمشق

وإن رحل الجسد, والمدينة التي اتسع صدرها للعالم كل العالم, ولم تنس صناجة حلمها وصوت العرب الصداح, الشاعر الكبير خير الدين الزركلي ولئن أتى من يعيد إليها ذاكرتها, فلأنه أحد أبنائها الذين شربوا من نبع وفائها , فالشام لم تطل عليك صدودها ياخير الدين وماقطعت يوماً حبل ودادها.‏

(اليوم ينصف الإعلامي عبد الرحمن الحلبي علم الأعلام, إذ ليس مصادفة أن يختار يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني ليحتفي بالشاعر المناضل, وهو اليوم نفسه الذي توفى فيه). هذا ماقاله د. محمود الربداوي في إشارة إلى تعمد مدير الندوة اليوم والتاريخ ليذكر بهذه الشخصية الشامية العربية المبدعة وهو ما أكده عبد الرحمن الحلبي بنفسه رغبة منه في تعريف الجيل الجديد بقامة عربية كبيرة أصبحت شبه منسية لديهم.‏

وتوقف الحلبي عند بعض محطات حياته وخاصة فترة الامبراطورية العثمانية التي كانت حكومتها تضيق عليه وتعمل على تعطيل مجلته (الأصمعي) لما كانت ترى في موادها ورسومها من انتماء وطني وعربي ولم يكن حاله أفضل في عهد الاحتلال الفرنسي الذي حكم عليه بالإعدام مرتين, ولكن الحكم الأول لم ينفذ لأنه غادر الوطن إلى الأردن ثم فلسطين فمصر فالحجاز.‏

أما المرة الثانية فكانت أثناء قيام الثورة السورية الكبرى بعد أن كتب قصيدته (العذراء) وترجمت إلى الفرنسية فامتلأ قلب المستعمر غيظاً وحكم عليه بالإعدام ثانية بعد أن كان قد ألغى الحكم الأول.‏

الحاضر أبداً‏

د. الربداوي تحدث عن خير الدين الزركلي الرجل الموسوعي المعرفي, والشاعر المناضل, ورأى أنه من حسن الاختيار أن تحيا ذكرى واحد من ألمع مفكري دمشق, فمنذ وفاته قبل ثلاثة وثلاثين عاماً, كان حفل تأبينه وصدر بهذه المناسبة كتاب (علم الاعلام) ضم شهادات لخيرة المفكرين فيه, ومن يومها لم يأت أحد على ذكره, وهو الثائر الذي قض مضجع المستعمر, وكتب في منفاه أجمل القصائد للوطن, حيث بدأ الكفاح من جديد هناك فكان رائد الشعر الوطني في القرن العشرين, وظل جرح الوطن يدمي قلبه على البعد, وقصيدته التي تصدرت الديوان تعبر أصدق تعبير عن حبه وحنينه للوطن في غربته, وقد خطها بيده بدوي الديراني وكان أشهر خطاط في دمشق, ومازالت كما هي بخطه في أول الديوان وفيها يقول:‏

العين بعد فراقها الوطنا/ لاساكناً ألفت ولاسكناً‏

والقلب لولا أنه صعدت/ أنكرته وشككت فيه أنا‏

إن الغريب معذب أبداً/ إن حل لم ينعم وإن ظعنا‏

لو مثلوا لي موطني وثنا/ لهممت أعبد ذلك الوثنا‏

القديم المتجدد‏

لماذا كان من أهم الشعراء في القرن العشرين? سؤال طرحه الناقد بيان الصفدي وأجاب عليه قائلاً: لأن الزركلي كان الأمين لقضايا وطنه, فقصيدته وإن بدت في ظاهرها تقليدية, لكنها حقيقة تنتمي إلى النقدية الكلاسيكية الجديدة, فنجد القص في شعره, ولديه قصص اجتماعية يدافع فيها عن المرأة, وهي مسألة لم تكن بالسهلة في تلك الفترة, ويشير الصفدي إلى أن دلالة القصة أقوى شعرياً لأنها تحرك وتثير وتشوق وتنغرس أكثر من مجرد قصيدة غنائية, وعلى صعيد الشكل لفت إلى مسألة طريفة وهي أن الزركلي كان يكتب القصيدة الوطنية على شكل موشح, فهو مجدد بالأوزان, كما أنه كان يهتم كثيراً بالجرس الموسيقي وهو ماسماه الحلبي بالشعرية التي لايفهمها الكثير من النقاد.‏

خلاف لايفسد الود‏

أشار مدير الندوة إلى أن قصائد الزركلي اشتملت قصصاً وأبطالاً ومجابهات ونتائج, وأن لدى الشاعر أيضاً قصائد ملحمية ومنها قصيدته (العذراء) لكن بيان الصفدي رفض اعتبار مثل هذه القصيدة ملحمة شعرية مؤكداً أنها قصة شعرية جميلة جداً ولاعلاقة لها بالملحمة لامن قريب ولابعيد .‏

شاعر النيربين‏

الحديث عن خير الدين الزركلي أعاد الشاعر الدكتور عمر النص إلى الفترة المضيئة التي عاشها في دمشق وهي النصف الأول من القرن الماضي, والتي احتشدت فيها عبقريات لايمكن أن تجتمع في زمن آخر وعلى رأسهم خير الدين الزركلي والبزم وشفيق جبري, وبدوي الجبل وعمر أبي ريشة وخليل مردم بك وغيرهم, إذ كانت هذه الكوكبة من الشعراء متمسكة ببضاعة اللغة ولاتريد أن تنجرف مع تيار التجديد الذي بدأت بوادره تظهر في تلك الفترة, وبين د. النص أن الزركلي كان واحداً من أهم من وضعوا الأناشيد في المدارس السورية, وأنشودته (عصفورة النيربين) التي كتبها بعد عودته إلى الشام متذكراً عصفورة الأماني من أجمل ماكتب من أناشيد, وأشار إلى أنه كان محكوماً في شعره لضغط التقاليد الأدبية والمجتمع.‏

الشاعر المقاوم‏

خير الدين الزركلي شاعر مقاوم من الطراز الأول وهو ماتحدث عنه الناقد بيان الصفدي مشيراً إلى أن (ديوان الثورة) الذي صدر في مصر ورافق صدوره الثورة السورية الكبرى, وجمع فيه شعر المقاومة أثناء النضال وفيها, كان لخير الدين الزركلي فيه أكبر عدد من القصائد, ولفت الصفدي إلى أنه قاوم على أكثر من جبهة رافضاً الجهل والتفرقة الطائفية, داعياً إلى الوحدة الوطنية بحس إنساني كبير فهو شاعر كوني.‏

من جهته د. الربداوي أشار إلى أن الشاعر قاوم الاحتلال حتى في المنفى, فعندما كان في مصر وقامت الثورة السورية الكبرى 1925, شارك الجميع دمشق ثورتها, فكان المصريون يتحسسون الألم الذي كانت تعانيه سورية وقاموا باحتفال كبير لمناصرتها وفي هذا الحفل أنشد أمير الشعراء شوقي قصيدته المشهورة (سلام من صبا بردى أرق).‏

فقال خير الدين الزركلي قصيدته الرائية التي كانت مثالاً يحتذى في الشعر المقاوم ولاتزال تردد حتى يومنا هذا وفيها يقول: الأهل أهلي والديار دياري/ وشعار وادي النيربين شعاري‏

ماكان من ألم بجلق نازل/ واري الزناد, فزنذه بي وار‏

دمعي لما منيت به جار هنا/ ودمي هناك على ثراها جار‏

الأعلام‏

من جهته اعتبر د. عمر النص الموسوعة العظيمة التي كتبها (الأعلام) في عشرة مجلدات نموذجاً للنقل الفكري القومي وفيها أراد أن يجسد تاريخ الأمة من الجاهلية حتى الآن.‏

وقد اختلف المنتدون في هذا الكتاب, فمنهم من عده عملاً أكاديمياً عظيماً لم يقدم عالم مثله كالدكتور الربداوي, فيما ذهب الصفدي إلى أنه ضيع شاعريته في انصرافه إلى عمل كان يمكن أن يقوم به أي أكاديمي باحث, وحسب رأيه أن توقفه عن الشعر مرده أنه وجد أن الشعر سيوصله إلى مشاكل هو بغنى عنها فمال إلى المساكنة.‏

شهادة الأحفاد‏

رغبة في التواصل بين الأجداد والأحفاد سلم عبد الرحمن الحلبي المنبر للشاعر الشاب قصي مهيوب الذي قرأ الزركلي قراءة محب فأدرك عالم الحلم الذي شرده عن دمشق الأم, فما أصعب أن يحكم على شاعر بالإعدام -يقول قصي- ويبقى على قيد الشعر, فدمشق كانت على مرمى قبلة وحبل المشنقة على مرمى جرح فحزم جراحه متكئاً على ألم القلم راحلاً من دمعة إلى دمعة.‏

لكن الحفيد أكد لجده أن دمشق مازالت على عهد الياسمين, وأنه لايزال بيننا يولد كل يوم مع الراحلين من عباقرة الوطن, فالعباقرة خالدون خلود الشمس في الفضاء الأزرق.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية