|
تحقيقات
عاشت أم عبد الله ستين عاماً في قريتها البعيدة تحلم بزيارة العاصمة, تحلم بالمباني والحدائق والشوارع العريضة. قضت صباها متمنية أن تقف فوق قاسيون لترى دمشق تعانق السحب. وعندما كتب لها أن تزور دمشق وهي في خريف العمر كان أول طلب طلبته أن تصعد الى قاسيون لتحقق الحلم القديم, لكنها ما إن رأت دمشق تعانق سحب الدخان حتى تمنت على ولدها أن يعيدها سريعا الى القرية التي لم تخرج منها ابدا. فدمشق اليوم تصرخ: ( أغيثوني فعروقي لم تعد قادرة على تحمل هذا الكم من الجلطات اليومية). المدينة, معها كل الحق فشرايينها التي هيئت لبضعة مئات من السيارات تئن اليوم تحت عجلات عشرات الآلاف منها.
** لم يعد للازدحام في دمشق وقت معين أو ساعة ذروة, بل أصبحت الذروة تمتد على مدار اليوم, وفي ساعات كنا نعتبرها من قبل بأنها ساعات مرتاحة, ولم تقتصر الأزمة المرورية على دمشق فقط بل امتدت إلى ضواحيها القريبة التي باتت من أحيائها وجزءا منها. يؤثر الازدحام في المدينة على الوقت وعلى التلوث وعلى ساكنيها بآن معا, فالمسافة التي يستطيع المرء أن يقطعها بعشر دقائق فقط في أيام العطل, يستغرق ساعة وجزءا من الساعة لقطعها في يوم دوام مزدحم ,
ولنكن منطقيين أكثر دعونا نحتسب الوقت الذي يستغرقه سرفيس باب توما المهاجرين على سبيل المثال لا الحصر في يوم عادي وفي يوم عطلة ليصل من آخر خطه في المهاجرين إلى موقفه في باب توما وفي نفس التوقيت, ففي يوم الخميس الأكثر ازدحاما بحسب تقدير المواطنين والسائقين وشرطة المرور, إذا انطلق السرفيس من المهاجرين في الساعة الواحدة تماما فانه سيصل إلى باب توما عند الساعة الثانية وخمس دقائق, أما يوم السبت وهو يوم عطلة فإن السرفيس إذا انطلق من المهاجرين الساعة الواحدة ظهرا سيصل إلى باب توما في تمام الساعة الواحدة والثلث بالرغم من أنه توقف على أكثر من إشارة حمراء ووقف عدة مرات ليقل ركابا وينزل اخرين.! فما رأيكم? سعيد سائق سرفيس يقول: ( السفرة في اليوم العادي تأخذ من الوقت ضعف وقت السفرة نفسها في يوم العطلة, الموظفون هم سبب الازدحام). أما ميساء التي تعمل في المنطقة الحرة وتقطن في جديدة تقول : ( المسافة بين منزلي وعملي قريبة نسبيا ولكن المشكلة كلها في الازدحام فانا احتاج أكثر من ساعة احيانا كي أصل الى عملي وهذا ما يجعلني أستغني عن العودة الى منزلي ظهرا وابقى في العمل لأن استراحة الظهر التي تبلغ ساعتين ونصف سأقضيها كلها على الطريق لو عدت الى المنزل, أحيانا أشعر بالحاجة الى الذهاب الى المنزل ولكنني لا استطيع لذلك أتمنى لو كان عملي في نفس منطقة سكني أو لو لم يكن هناك عدو لدود اسمه ازدحام).
أما كريم سائق تكسي يقول : ( الناس يعتقدون بأننا مستفيدون من زحمة السير ومسرورون حين نعلق لساعات في الاختناقات المرورية وأن ذلك سيعود علينا بالنفع المادي لأن العداد يعد على الوقت أيضا, ولكن صدقيني هذا الامر يجعلنا نقرف من عملنا يعود علينا بالخسارة لأن الوقت له ثمن أيضا.) الوقت له ثمن, جملة لم نتعود عليها أو ربما تواطأنا جميعا لنسيان وجودها فكل ما في شوارعنا يثبت بالدليل القاطع أن لا قيمة للوقت عندنا, وأن أحدا من مسؤولينا لم يفكر في يوم من الأيام أن المواطن العادي وقته ثمين أيضا مهما كانت وظيفته, ولذلك ترانا نقضي في الطريق إلى العمل أكثر من وقت العمل نفسه على مدى الأسبوع. معتز شرطي مرور يقول: ( المشكلة الحقيقية في اعداد السيارات, أنا من خلال عملي ألاحظ الزيادة غير المعقولة أحيانا للسيارات بين سنة وأخرى وبين شهر وآخر وفي الفترة الاخيرة أصبحت الزيادة تلاحظ بين أسبوع وآخر.) قد يعتقد البعض أن الشرطي يبالغ بقضية الزيادة الملاحظة بالأعداد بين أسبوع وأخر وبين يوم وأخر ولكن هذه الزيادة أكدتها لنا قوائم اعداد السيارات المسجلة لدى مديرية النقل الطرقي في وزارة النقل فتسجل هذه الارقام زيادة بعدد السيارات بين عامي 2000 و2004 ب (207621) سيارة فقد بلغ عدد السيارات في القطر في عام 2000 ( 623229) سيارة سياحية وسيارات نقل وسيارات اجرة أما في عام 2004 ازداد عدد السيارات من نفس الفئات إلى (830950), ومع نهاية 2005 دخل الى مدينة دمشق وحدها مئتا ألف ومئة واربع واربعون سيارة مختلفة الانواع أما اجمالي عدد السيارات التي دخلت الى القطر لعام 2005 فقط فكان (067055,1) سيارة من كافة المركبات فإذا أضفنا العدد الذي دخل في عام 2005 الى العدد المسجل لإجمالي السيارات في القطر حتى نهاية 2004 يصبح العدد (897955,1)) وهذه الزيادة لا يستهان بها على الإطلاق اذا علمنا أن الشبكات الطرقية في القطر بشكل عام وفي مدينة دمشق على وجه الخصوص, فلم تشهد الطرق أي توسع لأكثر من عشر سنوات سابقة ما عدا تلك التعديلات التي أجريت على بعض الطرق غير الرئيسية في المدينة بتحويلها من مسربين الى مسرب واحد ما كان لها من الانعكاسات السلبية بمثل الايجابيات, وأكثر أحيانا. وبالطبع لم يستقر عدد السيارات على هذا العدد فحتى نهاية شهر أيلول من العام الحالي 2006 سجل دخول (274827) لكافة المركبات منها (166108) في دمشق. أضف الى ذلك أن مديرية نقل دمشق ترسم يوميا 250 سيارة. وكل هذه الارقام لا تتناسب اطلاقا مع مساحة دمشق البالغة ( 10692) هكتاراً. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن عدم وجود دراسات حكومية تربط بين استيعاب المدن السورية وحال الطرقات فيها وبين السماح باستيراد سيارات جديدة أو حتى صناعة سيارات محلية, أين ستمشي السيارات اذن, هل ستهدم المدن لتوسيع الطرقات مثلا!!!!? إذن هناك أزمة حقيقية ولا بد لنا من البحث عن أسبابها وطرق حلولها وفي ندوة حملت نفس الاسم قال المهندس يعرب سالم وزير النقل : (أعداد السيارات السياحية المتزايدة يوميا في المدينة باتت تفوق قدرة المدينة على استيعابها لذلك كان لا بد من إحياء أنماط جماعية للنقل تبدأ بالباصات الكبيرة وتنتهي بإحياء شبكة الترامواي. و سنشهد في الفترة القادمة تجربة خلاقة لإعادة ما يمكن إعادته إلى مدينة دمشق من بهاء). ومن هذا المنطلق سيبدأ العمل في دمشق قريبا ما عدده 1200 باص للنقل الجماعي عالية المواصفات تخديميا وبيئيا كما وصفت ولكن للتذكير فقط, فلقد استغرق مشروع نفق ساحة العباسيين وإعادة تصميم الساحة ما يقارب ثلاث سنوات, الأمر الذي يجعلنا نتساءل كم من الوقت سيستغرق مشروع الترامواي في حال أقر المشروع وبدئ العمل به, وهل فعلا سيكون الحل بإنزال باصات النقل إلى الشارع من جديد,ألم تكفينا سنوات من المعاناة بملاحقة باصات النقل الداخلي وانتظارها لساعات على المواقف ناهيك عن الازدحام داخل الباص, وما خفي كان أعظم. مهند سائق سرفيس: (وجود باصات كبيرة في الطريق أو شاحنات يضاعف الازمة المرورية وهو سبب رئيسي في خلق الاختناقات المرورية فالباص بحجمه الكبير غير قادر على مراوغة الطريق وكما تعرفون لايوجد لدينا قيود لتجاوز السرعة أو الدوبلة (تعني التجاوز) فالباص سيعرقل الحركة داخل الشارع وشوارعنا باص واحد كفيل باغلاق الشارع, فكيف ان كان العدد الذي ذكرته). كوثر معلمة تقطن في ضاحية الأسد - حرستا- ومدرستها في باب شرقي, تستقل سرفيسين يوميا للوصول الى مكان عملها ويستغرق الطريق صباحا حوالي الساعة ونصف الساعة بين انتظار وسيلة النقل وبين الازدحام الذي تعانيه في الطريق, أما بالعودة فحديث آخر إذ يأخذ الطريق نفس الزمن تقول كوثر: ( عندما تكون الحصة الاولى رياضة, أخرج من المنزل متأخرة نصف ساعة عن وقت خروجي المعتاد,أي بعد أزمة السير المعتادة في الصباح الباكر, يكون الموظفون قد خرجوا وخفت الزحام قليلا, فلا يستغرق الطريق أكثر من نصف ساعة, أما أزمتي الحقيقية فتتمثل في وصولي الى منزلي بعد وصول أولادي ما يجعلني في قلق دائم من وجودهم في الشارع أو على درج البناء أو عند السمان المجاور للمنزل, وليس من المعقول أن اجعلهم ينتظرونني يوميا عند جارتي فحتى لو كان الجيران لبعضهم ولكن المثل يقول اذا كان حبيبك عسل, ولا تسألني ما الحل, لأنني عاجزة عن إيجاده, فإما أن استقيل وأنا بحاجة الى وظيفتي ماديا وإما أن أجد طريقة أنتقل بها الى مكان قريب وهذا ضرب آخر من المستحيل بعدم وجود مسؤول يؤمن لي النقل, وإما بحل أزمة الازدحام في البلد في أوقات ذهابي وإيابي في العمل, فأعتقد الحل عندكم وليس عندي ). الدكتور رياض خليفة مدير النقل البري في وزارة النقل يرى أن الازدحام المروري في دمشق ليس مشكلة جديدة, ولكنها تتفاقم يوميا, وما يزيد الطين بلة عدم وجود مواقف مخصصة للسيارات داخل المدينة, ما يجعل السيارات تركن على جانبي الطريق ما يأخذ من مساحة الشارع ويضيق المساحة التي تمشي فيها السيارات فيتحول الشارع ذو الثلاثة مسارات الى مسار واحد فقط ما يخلق اختناقات جديدة لا مبرر لها. وبالرغم من أن الدكتور خليفة أعطانا الارقام الدقيقة والاحصائيات الكاملة لأعداد السيارات في دمشق وفي القطر الا أننا لم نستطع أن نعرف عدد السيارات الحكومية المستخدمة داخل المدينة أيضا. فواز شرطي مرور قال : ( والله لا أدري ماذا أقول لك, المشكلة عويصة ومو بهالبساطة, لا القصة قصة باص ولاسرفيس ولا ساعات ذروة أنا أراها مرتبطة بوجود الموظفين في المدينة, وأنا اراهنك أن تري أي ازدحام يوم الجمعة أو السبت, حتى الهوا يوم السبت غير شكل). وبالطبع لم أكن بحاجة لأراهن الشرطي على ذلك فقد خبرته بنفسي إذن المشكلة تتلخص بالموظفين ومراجعي الدوائر الحكومية والوزارات, ولمعرفة الحل سألت المهندس معتز أبو صالح المختص بتخطيط المدن من لندن قال لي : ( بالنسبة لبلادنا, لا توجد مسافات طويلة محرجة بين المدن, ما أقصده أن المسافة بين دمشق والمدينة الصناعية على سبيل المثال قد تكون نفس المسافة بين شارعين في مدينة الرياض السعودية أو بين جادتين من جادات باريس أي لا مشكلة إطلاقا إ ن انتقلت الوزارات والمديريات التابعة لها إلى منطقة قريبة من دمشق في تجمع حكومي واحد يحتضن الدوائر والمديريات والشركات العامة والوزارات, يخصص لها مثلا خط ميترو يخدمها.) أعجبتني فكرة المهندس أبو صالح وهناك فكرة لدى الحكومة في اقامة مجمع حكومي في منطقة معضمية الشام لا نعلم حتى الان متى سينفذ, ومتى سيصبح قيد التنفيذ, ونعلم أيضا أنه يتم حاليا إعداد دفاتر الشروط الفنية للاعلان عن 15 مشروعاً لتطوير مدينة دمشق وهذا يتم بالتعاون مع شركة ألمانية. كما توضع اليوم بعض الدراسات لتنفيذ شبكة من الأنفاق والجسور تراعي الاحتياجات الحالية الزيادة السكانية لمدينة دمشق, وخلال الفترة القليلة القادمة ستباشر محافظة دمشق بإعادة تأهيل البنى التحتية لمدينة دمشق القديمة بدءاً من منطقة النقاشات. كل هذه المشاريع ستكون قيد التنفيذ ولكن لا نعرف متى ولا نعرف مدى جدواها بحل الأزمة القائمة والتي لم تعد تحتمل التأجيل بل تحتاج إلى حلول إسعافية على مختلف الجبهات, وكل واحد منا لديه مغامراته الخاصة مع الازدحام ومع الوقت الذي يقضيه في طريقه إلى عمله. |
|