تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حرفة التخيّل لدى المحافظين الجدد

آراء
الأربعاء 8/11/2006
أمير سماوي

منذ نهاية ستينات القرن العشرين بدأ المحافظون الجدد يُظهرون بنيتهم الأولى كقوة قادمة لتسيطر على مقدَّرات الحزب الجمهوري الأمريكي,

وكانت باكورة خطواتهم العملية دورهم في تدبير فضيحة‏

( ووترغيت ) بحق الرئيس‏

( نيكسون ) الذي زار عام 1974 سورية وغيرها من الدول العربية وعبّر عن فرحته وسروره وانقلاب مفاهيمه لصالح لتلك الحفاوة العربية الطيبة التي استقبله بها الشعب العربي وقياداته وكان من نتائج تلك الفضيحة أن استقال, ومنذ نهاية السبعينات اشتغل المحافظون الجدد وبعد تحقيقهم لمكانة ما داخل الحزب الجمهوري على وتر التخطيط لمستقبل القرار الأمريكي من خلال تهيئة الظروف الخصبة لمجيء ( آل بوش ) وهذا ما يؤكده كتاب ( التوراتية والحرب النووية ) والمنشور مترجما إلى العربية من قبل دار طلاس عام 1983 وكانت مرحلة الرئيس ( رونالد ريغان ) هي مجالهم للتشكل النهائي ومن ثم للسيطرة على القمة,‏

فجاء ( جورج بوش ) الأب رئيسا عام 1988 على الرغم من الضعف والتردد الذي يصبغ طبع شخصيته وهنا أنجزوا حين ورّطوا العراق باحتلال الكويت فمارسوا نفخا وتهويلا إعلاميا لإيهام ( صدام ) أنه يملك قوة عسكرية لا يمكن إلحاق الهزيمة بها ? وهذا ما هيأ لهم احتلال منطقة الخليج العربي برا وبحرا وبسبب هذا الاحتلال والحاجة لتمويل الحرب انتهت مقدَّرات العرب من الأموال الفائضة والمودعة في البنوك العالمية والتي كانت تتجاوز الألف مليار دولار, ولأن أداءهم في إدارة ( بوش ) الأب كان مفضوحا وفاشلا بسبب نقص الخبرة وحداثة التجربة وعدم اغتنام أية مبررات لتحقيق مطامحهم, خسر الأب أمام الديمقراطي الشاب الوسيم ( كلينتون ) عام 1992والذي سار باتجاه تحقيق السلام في الشرق الأوسط وعلى كافة المسارات فكان مؤتمر مدريد وما تلاه من مفاوضات أثمرت ما يسمى بوديعة رابين التي تقضي بإعادة الجولان السوري والإنسحاب حتى خط الرابع من حزيران عام 1967وخلال فترتيه الرئاسيتين زار ( كينتون ) سورية وغيرها من الدول العربية وأعرب عن سروره وإعجابه هو الآخر بحفاوة الأرض التي كان يجهلها وبالتاريخ والحضارات العريقة التي احتضنتها, كل هذا وما زاد عليه من أعمال ( كينتون ) جعل المحافظين الجدد يدبرون فضيحة أشد سوءا من سابقتها وسميت بفضيحة ( مونيكا لوينسكي ) المرأة اليهودية التي زُرعت في دهاليز البيت الأبيض ونتيجة هذه الفضيحة وما أعقبها من تحقيق ومحاكمة علنية وتحريض إعلامي مهين ومشين أدى إلى خضوعه واستسلامه لإرادة اليمين وفق وصف زوجته السيناتورة (هيلاري ) وطبعا هذا اليمين صنيعة اللوبي الصهيوني بأوامر مباشرة من شارون ونتنياهو الذين هددا بحرق واشنطن ?! ومن هنا هيأ المحافظون الجدد لمجيء ( جورج بوش ) الأبن عام ألفين فتوزعوا جميع المناصب العليا فيما بينهم وكان لا بد لهم من اختراع المبررات لكسب الرأي العام وتوجيهه نحو الشرق الأوسط الكبير والتبشير برسالة سماوية كلِِّف ( بوش ) بها وبضرورة احتلال هذا الشرق الأوسط بكامله وامتلاك ثرواته ولأجل التسريع في تحقيق هذا الأمر وُجدت جريمة تفجير برجي نيويورك عام 2001 التي هزت بزلزالها النمط التاريخي للشعب الأمريكي فتقبّل أي انتقام يقرره (بوش) ولأجل كل ذلك اختُرعت الدلالات التخيلية الواسعة الأكاذيب, وليس المهم الوصول إلى مدلولاتها التي لم تكن إلا ديموغرافيا الشرق الأوسط, وصُوِّرت المعركة باستخدام عدد من الطائرات والصواريخ العابرة فتسقط الأنظمة ومن ثم تأتي الشعوب تواقة لرشِّ الأرز والورود على الجيش الذي يهبها الديموقراطية ?! وهنا انحرف المحافظون بعيدا في أدلجتهم وتنظيرهم وهم يخوضون في التكوينات الوهمية ونسوا أن أي وهمٍ هو تخويض في الشر لأنه خارج التاريخ الشعري الأمريكي الذي بشّرت به رومانسية ( وولت ويتمان ) ورمانتكية ( إدغار آلان بو ) وواقعية ( أرشيبالد ماكليش ) وبنيوية ( والاس ستيفنز ) شعراء أمريكا الكبار, وتجاهلوا البنيات التأسيسية للبراغماتية : شريعة النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية والتي وضع لبناتها الأولى الرئيس التاريخي الثاني وخليفة (جورج واشنطن ) المفكر ( توماس جيفرسون ) بداية القرن التاسع عشر والذي وحّد بأفكاره الولايات الأمريكية ولم ينتبهوا لقراءة كتب عالم الاجتماع الألماني ( ماكس فيبّر ) ومنها كتاب ( رجل العلم, رجل السياسة ) وكتاب ( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ) والذي استفاد من أرضية سياسية برع بها النظام الأمريكي بعد الحرب العالمية الأولى‏

ولكن المحافظين الجدد وأمام إنكار كل أفكار وعِبر التاريخ القريب أخذوا يخططون لتطبيق تخيلاتهم الشريرة لأن البراغماتية التي تعني : مصلحة أمريكا فوق كل اعتبار أصبحت بنظرهم تعني مصلحتنا كمجموعة هي كل الإعتبار ?! وبعيدا عن محاولة التروي والتمحيص في فهم أن تلك الشعوب التي تقطن الشرق الأوسط الاسلامي والعربي لن تتخلى عن عراقتها وعن ثوابتها التاريخية وهي بالتأكيد ستريهم آياتها التي لم يقرؤوها , وإن كانوا قد قرؤوا أشياء من كتاب (تأسيس المجتمع تخيليا ) ل ( كورنيليوس كاستورياك ) فهم لم يستفيدوا منه أيضا لأنهم انزلقوا عميقا في وحل التهويم المفضي إلى أن الشعوب التي تصوروها دمى بلا أرواح وعقول وعواطف وبالتالي وبسبب ذلك الجوع لاقتناء حاجاتها الهضمية والجنسية ستنقاد كقطعان في ظل بندقية الجندي المحتل 0 فإذ بها شعوب تنتج تخييلا شعريا ملحميا ناتجا عن رؤية صافية لمصيرها حين باشرت المقاومة فتعيد المحافظين الجدد للوقوف على عتبة يتساوى فيها التخييل بالكذب , وصارت كل أكذوبة اختراعا مرعبا لأنها كانت حين نشوئها تستدعي حربا بعد النجاح في الترويج لها وتصوير أن قوى إرهابية ستدمر الحياة الخاصة لكل أمريكي ويجب تدميرها في عقر دارها قبل مجيئها إلينا , وأما الآن فالأكذوبة: كابوس يقضّ مضاجع هؤلاء المحافظين الجدد , فالمقاوامات الناشئة كردة فعل مباشرة من الشعوب على الاحتلال أفلست حساباتهم التخييلية وأدخلت الجدل إلى حقل التجاذب الأكذوبي , فالتخيل أنتج عقيدة عقيمة أمام تحدي الواقعية المفرطة بوصول السيل من قتلى الجيش الأمريكي وخروج الأمهات للسؤال عن جدوى الكذب أمام هذه الحقيقة السوداوية 0 لذلك وبعد ما جرى هل يعود المحافظون الجدد لاستخدام واسع للدلالات الفاعلة ألتي أفضت إلى مدلولات براغماتية أفقدها ( جورج لوكاش ) الأب الشرعي للواقعية الاشتراكية كل مضامينها الخيالية وأعطاها قيمتها في أن تنتج عدالة كمية وإن كان على حساب الكيفية الروحية وإن كان ( بورس ) قد زينها بسيميائية شيكاغو وهذا ما فتح الباب أمام الديمقراطيين لإعادة التمعن والبحث عن أوسع بساط براغماتي بعيدا عن ومضة تخييل تجافي حقيقة المستقبل 0‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية